عبد السلام محمد عارف.. كما رأيته (الحلقة التاسعة)
مدير عام الاذاعة والتلفزيون ينقل الي وظيفة (مضمد صحي) لتحديه توجيهات رئاسة الجمهورية بعدم التعاطي مع انقلاب هواري بومدين
الازمة تتفاقم بين عبد السلام والكتلة القومية
شاءت الاقدار ان تتأزم الامور نحو الأسوأ.. فبعد أن عقد قادة الكتلة القومية عدداً من الاجتماعات مع الرئيس عبد السلام عارف في القصر الجمهوري بُعيد عودته الي بغداد من مصر في نهاية ايار (مايو) 1965 لبحث تطبيق برنامج العمل السري الذي وضع في منزل الرئيس عبد الناصر كما جاء ذكره آنفا، دون ان يستطيع الطرفان التوصل الي اتفاق جدي لإزالة الخلاف القائم بينهما، إذ حصلت القناعة لدي قادة الكتلة أن الرئيس عبد السلام يحاول التنصّل عن تطبيقه، مما ضاعف من تأزم الموقف علي نحو أعمق مما كان عليه في السابق.
زار الرائد عبد الله مجيد سكرتير عام ديوان رئاسة الجمهورية مبني الإذاعة والتلفزيون في الصالحية مساء السادس عشر من حزيران (يونيو) 1965، ليعرض علي أمير الحلو ـ مدير اذاعة بغداد ـ ان السيد رئيس الجمهورية يخصكم بالسلام، ويرجو أن تتم اعادة بث الفيلم الوثائقي التلفزيوني للزيارة التي قام بها لقطعات الجيش في قاطع الموصل يوم أمس، إذ لم يتسنّ له مشاهدته عندما كان في طريق عودته الي بغداد، فأبلغه الحلو بأن ذلك من صلاحية السيد المدير العام، وكان يومها عبد اللطيف الكمالي واستأذن ان يتصل به هاتفياً لاستحصال موافقته.
ولكن المفاجأة كانت علي الطــرف الآخر من الهاتف، عندما رد الكمالي بلهجة شديدة للغاية بأن التلفزيون لا يمكن أن يكون مخصصاً للحكام فقـط، إنمــا هــو للشعب وتوجّهاته، ويبدو ان عبد الله مجيــد قد سمع الكلام ولكنه لم يُبد امتعاضاً يذكر..
ولما اعتذر أمير الحلو منه عما جري، ابتسم قبل أن يغادر مبني الاذاعة والتلفزيون شاكراً مدير الاذاعة علي حُسن استقباله وتوديعه، كما أبلغني السيد الحلو نفسه في لقاء معه في الثامن عشر من آذار/مارس 1998.
ثم جاءت أحداث الجزائر التي وقعت بعد ثلاثة ايام لتفاقم الأزمة، خاصة وأن ديوان رئاسة الجمهورية كان قد أصدر توجيهات محددة بضرورة قيام محطتي الاذاعة والتلفزيون ببث الأناشيد الوطنية والقومية، واعادة المقالات الافتتاحية المنشورة في الصحف العراقية التي تركز علي الانقلاب المذكور، غير انه لوحظ ان المحطتين قد خفّفتا من ذلك شيئاً بعد شيء، وعادتا الي برامجهما الاعتيادية مع صباح يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من حزيران (يونيو)، وعندما حل مساء ذلك اليوم اتصل الرائد عبد الله مجيد بالعميد الركن دريد الدملوجي مدير عام وكالة الانباء العراقية ليكرر عليه التوجيهات السابقة بضرورة التركيز علي أحداث الجزائر ونبذ الانقلاب الذي قام به العقيد هواري بومدين، وأن تكون أخبار الجزائر مواضيع تعليقات رئيسة لدي وكالة الأنباء المذكورة وكذلك الصحافة والاذاعة والتلفزيون، ولما حاولت وكالة الابناء العراقية تنفيذ ذلك التوجيه، اصدر عبد اللطيف الكمالي مدير عام الاذاعة والتلفزيون، أمراً معاكساً للتوجيه المذكور في صباح اليوم التالي، طالباً من الموظفين العاملين في مؤسسته اختصار التعليقات، معتبراً أن احداث الجزائر شأن داخلي يخصّ حكومتها، وليس لأية دولة اخري الحق في التدخل فيه.
مدير عام يتحدي رئيس الجمهورية
ولما وصل خبر ذلك الإجراء المعاكس الي أسماع ديوان رئاسة الجمهورية، اتصل الرائد عبد الله مجيد شخصياً بالمدير العام عبد اللطيف الكمالي طالباً منه ضرورة تنفيذ توجيهات رئيس الجمهورية وديوان الرئاسة بشأن بث وإذاعة التعليقات كاملة من دون حذف أو اختصار..
وبعد مشادّة كلامية بينهما، رفض عبد اللطيف الكمالي ذلك بشدة، تحت ذريعة أن مثل هذه التصرفات والإجراءات تعتبر دعاية لشخص عبد السلام عارف وهذا مما يتنافي مع المهمات الاساسية لوكالة الأنباء العراقية عموماً،ومحطتي الاذاعة والتلفزيون علي وجه الخصوص .
وبدلاً من الاتصال بالوزير المسؤول الذي ترتبط به وكالة الانباء العراقية والمديرية العامة للإذاعة والتلفزيون، فقد أبلغ عبد الله مجيد أوامره هاتفياً الي أحد مذيعي الاذاعة العراقية مباشرة لغرض بث العديد من تعليقات الصحف كاملة، ولو علي حساب حذف مواد معينة من البرنامج اليومي العام.
موقف وزير الثقافة والارشاد
وعندما عرف بالموضوع العميد الركن عبد الكريم فرحان وزير الثقافة والارشاد، المعروف بمواقفه المتصلبة في حياته العامة أساساً، والمتشنّج من مواقف عبد السلام عارف تجاه الكتلة القومية بشكل خاص، فإنه اتخذ موقفاً مؤيداً للكمالي، وقام علي الفور بإعداد كتاب رسمي شديد اللهجة عن مهمات الاذاعة والتلفزيون ودورهما الاعلامي والقومي، والمشاكل التي يتسببها تدخل مسؤولي الدولة في شؤونهما الخاصة وتوجّهاتهما المفترضة، معنوناً إياه الي المديريات العامة التابعة لوزارته، مُعطياً نسخة منه الي ديوان رئاسة الجمهورية، جاء فيه وفق ما هو منشور في كتاب امين هويدي (كنت سفيرا في العراق):
ان واجبات الاذاعة والتلفزيون خطيرة، وفي مقدمتها بناء الانسان العربي، وتعميق المفاهيم القومية والانسانية، وتوعية المواطن وتربيته، لكني لمستُ ان بعض المسؤولين ما زالوا يتصورون ان هذه الاجهزة وجدت للدعاية للحكام والمسؤولين، فأخذوا يضغطون علي الموظفين والمذيعين، فأربكوا امور هذه الاجهزة وأثروا علي مناهجها، فكرهها الشعب وغرُب عنها.
أرجو التفضل بإصدار الاوامر للمعنيين والمسؤولين لتقدير هذه الناحية، وعدم الاتصال بأي موظف من موظفي المديرية المذكورة عدا المدير العام.
لم يكتف عبد الكريم فرحان بذلك الكتاب الرسمي، بل بادر بتقديم استقالته الي رئيس الوزراء الفريق طاهر يحيي في اليوم نفسه...ولمّا علم وزير الداخلية صبحي عبد الحميد بذلك، حاول التعاون مع شخص رئيس الوزراء علي تجميد استقالة زميله في الكتلة القومية أو سحبها غير ان فرحان رفض ذلك في حين اضطر طاهر يحيي الي وضع الاستقالة تحت اليد، دون ان يبتّ فيها او يرفعها الي رئيس الجمهورية، بينما واصل الوزير المذكور القيام بمهمات وزارته ببعض البرود، ولكن من دون ان يتركها، وأمست الاجواء مشحونة بين الكتلة القومية وعبد السلام عارف اكثر مما كانت عليه خلال الاشهر السابقة.
ولما اطلع الرئيس عبد السلام عارف علي ما ورد في ذلك الكتاب غضب جدا، معتبراً تلك العبارات مسّاً لشخصه ولربّما له الحق في ذلك، فتحدث هاتفياً مع الفريق طاهر يحيي مساء الثامن العشرين من الشهر نفسه (حزيران ـ يونيو) في وقت كان عبد الكريم فرحان جالساً مع رئيس الوزراء، فشاءت الاقدار ان يسمع كل الشتائم التي قذفها رئيس الجمهورية عليه، عنئذ أصر فرحان علي رئيس الوزراء قبول استقالته، الموضوعة تحت يديه، منذ الثالث والعشرين من الشهر ذاته، وغادر مبني مجلس الوزراء وغادر بغداد الي القاهرة في الثلاثين من حزيران (يونيو) 1965.
وسارت الامور نحو الأسوأ، عندما أصدر الرئيس عبد السلام عارف مرسوماً جمهورياً بنقل عبد اللطيف الكمالي من منصب مدير عام الاذاعة والتلفزيون الي وظيفة (مضمّد) في مستوصف قضاء راوندوز في شمال العراق، رغم أن الكمالي، الموظف السابق في وزارة الصحة يحمل شهادة ليسانس في الحقوق.
صبحي عبد الحميد يتضامن مع فرحان
كان صبحي عبد الحميد وزير الداخلية والرئيس غير المنتخب لـ(الكتلة القومية) والصديق الحميم لـعبد الكريم فرحان، أول من تضامن معه في تقديم استقالته الي رئيس الوزراء في اليوم نفسه، الثلاثين من حزيران (يونيو) 1965، قبل أن ينضم إليه أربعة وزراء آخرون من غير المنتمين الي صلب الكتلة القومية لتبلغ الأزمة أشدّها وهم:
أديب الجادر وزير الصناعة وعبد الستار علي الحسين وزير العدل، وعزيز الحافظ وزير الاقتصاد، وفؤاد الركابي وزير الشؤون البلدية والقروية.
كانت استقالة صبحي عبد الحميد أشدّ لهجة، ماسّة لأسلوب الحكم من قريب وبعيد، داّلة علي امتعاض كبير وغضب مكبوت علي الرئيس عبد السلام عارف رغم ان كتاب الاستقالة كان معنونا الي رئيس الوزراء الفريق طاهر يحيي، وجاء في الاستقالة عبارات شديدة اللهجة والمقصد منها:
ان أوضاع البلد قد تردت في الفترة الاخيرة بشكل أصبح حتي أقرب الناس للحكم، وهم القوميون علي اختلاف فئاتهم وأشخاصهم يتذمرون، وينتقدون تصرفات السلطة وضعف الحكم، ورغم تحذيرنا ونُصحنا، لم نجد أي استجابة لإصلاح الوضع، بل استمر التدهور، وأخذ الحكم يجنح الي الفردية متبعاً سياسة (فرّق تسُد)، هذه السياسة التي أدت الي تعميق الروح الطائفية وتفتيت الوحدة بخلق الإقليمية وبعثرة الصف القومي.
وقد اُستهين بالوزراء، واُعتبروا مجرد آلات تنفيذية، وبلغ الحد الي توجيه الإهانات الي وزير ثائر ـ يقصد به عبد الكريم فرحان ـ ومكافح معروف، بشكل لم يسبق له مثيل في أي عهد من العهود التي مرّت علي العراق.
لقد فكرت ملياً في الامر، فوجدت ان البلد يحترق، وان الشعب يُحمّلنا هذا الحريق. ولما كنا لا نستطيع إخماد الحريق، فقد قررت تقديم هذه الاستقالة مستنداً علي الأسباب التالية:
1 ـ فقدان الثقة والانسجام بين الثوار.
2 ـ انعدام الحكم الجماعي، والاتجاه نحو الحكم الفردي.
3 ـ تفتيت الوحدة الوطنية.
4 ـ الاعتماد علي العناصر الانتهازية الساذجة والمُطبّلة.
5 ـ التدخل في شؤون الوزارات، وفرض الموظفين علي الوزراء، دون اعتبار لرأيهم الخاص.
6 ـ تشجيع التكتلات في صفوف القوات المسلحة، وإثارة الحقد في نفوس الضباط، بعضهم ضد الآخر.
7 ـ عدم الالتزام ببرنامج العمل المتفق عليه في القاهرة باجتماعات القيادة السياسية الأخيرة، وذلك كالتالي:
أ ـ لم يُلتزم بمبدأ القيادة الجماعية.
ب ـ لم يُقبل بحث موضوع إنهاء التكتلات في الجيش.
ج ـ لم تسُد الثقة والانسجام بين الثوار.
8 ـ أصبح في اعتقادي ان الطريق الي الوحدة بعيد المنال. وذلك لأن شروط إقامتها، التي تستند علي وحدة الجيش ووحدة القيادة ووحدة الصف الوطني، لم ولن تتحقق، لذلك أصبح مبرر وجودنا كوزراء وحدويّين غير وارد.
وبناءً علي ما تقدم، أرجو التوسط بقبول استقالتي من منصب وزير الداخلية ومن عضوية المجلس الوطني لقيادة الثورة، كما أرجو إحالتي علي التقاعد من الجيش.
وأخيراً، أشكر لكم حسن تعاونكم خلال الفترة التي عملنا فيها معاً، راجياً لكم التوفيق لخدمة الوطن. (نص الاستقالة مأخوذة من اوراق صبحي عبد الحميد).
موقف الفريق طاهر يحيي
وعلي الرغم من تلك الاستقالات الجماعية التي تسببت في أزمة وزارية حقيقية تُوشك علي إسقاط وزارة طاهر يحيي الثالثة إلا أن رئيس الوزراء لم يحرّك ساكناً، بل ظلّ ينتظر أن يحلّها آخرون (حسب وصف السيد صبحي عبد الحميد) وربما اسباب ذلك الموقف في أن تكون الحيرة قد أخذت من السيد طاهر يحيي مأخذها، فذُهل واُحبطت معنوياته، بشكل أمسي معه غير قادر علي اتخاذ قرار حاسم بمستوي رئيس وزراء، او أنه اعتقد أن الوزراء المستقيلين سيتراجعون عن مواقفهم خلال أيام محدودة، او تصور أن المشكلة التي قامت وأدت الي تلك الاستقالات، لا تعدو أكثر من خلاف شخصي بين عبد الكريم فرحان وعبد السلام عارف ولا داعي للتدخل بينهما، والايام القليلة القادمة كفيلة بحلّها، وربما يكون السيد يحيي قد أصابه التعب والإرهاق من المشكلات والمعضلات والعقبات العديدة التي تسبّبتها ظروف العراق القائمة حينئذ منذ تموز (يوليو) 1958 حيث شغل خلالها مناصب عديدة ومتتالية، ابتداء من مدير الشرطة العام، الي رئيس اركان الجيش، وانتهاء برئيس وزراء.
ناجي طالب يتدخل
كان اللواء الركن ناجي طالب وزير الخارجية قد توقف في القاهرة في الثاني من تموز (يوليو) 1965 وهو في طريق عودته من مهمته الخاصة التي اُوفد لأجلها الي الجزائر ـ كما ذكرنا سابقا ـ عندما فوجئ بـعبد الكريم فرحان وهو يزوره في مقر إقامته (بفندق شيبرد)، ليخبره بالذي وقع بينه وبين الرئيس عبد السلام عارف وأدي الي استقالته.
رأي ناجي طالب الموضوع شخصياً وبسيطاً، ولم يخطر بباله ساعتئذ، تلك الضجّة في بغداد، فالاستقالة في اعتقاده لم تقدّم جراء موقف سياسي أو موضوع ذي أهمية قصوي أو مشكلة كبيرة في مجلس الوزراء أو علي مستوي الدولة، وخصوصاً وأن عبد الكريم فرحان لم يخبره ـ ربما بسبب عدم معرفته أصلاً ـ بأن وزراء آخرين قد استقالوا تضامناً معه أو مع السيد صبحي عبد الحميد، ولم يكن علي دراية كاملة بالأزمة الوزارية الكبيرة إلا عندما عاد الي بغداد مساء الرابع من تموز (يوليو) حيث فوجئ بذلك حين علم بعدد الوزراء المستقيلين.
وبعد ساعات من وصوله حضر الي منزله في حي (الوزيرية) عضوا المجلس الوطني لقيادة الثورة عميد الجو الركن عارف عبد الرزاق قائد القوة الجوية والعميد سعيد صليبي قائد موقع بغداد، حيث عرضا عليه موضوع إشراكه في وزارة يؤلفها عارف عبد الرزاق، ولكن ناجي طالب الذي فوجئ بالامر، اقترح أن يقوم شخصيا بمحاولة جدية لتسوية الأزمة القائمة، وذلك بإقناع الوزراء المستقيلين بالعودة عن مواقفهم القائمة، قبل التفكير بوزارة جديدة يشكلها رئيس وزراء آخر.
ومن خلال اتصالاته ولقاءاته في اليوم التالي، حصلت القناعة التامة لدي ناجي طالب بأن عبد السلام عارف يرغب في بقاء طاهر يحيي رئيساً للوزراء في الوقت الراهن، وأن الوزراء الخمسة المستقيلين قد باتوا علي قناعة بأن تصرفهم وتضامنهم مع عبد الكريم فرحان لم يكن له ما يبرره، وعرف السيد طالب ان الرئيس لا يرغب في عودتهم جميعاً الي الوزارة، باستثناء صبحي عبد الحميد، كما أدرك أن رئيس الجمهورية غير جاد في شأن تكليف عارف عبد الرزاق بتشكيل وزارة جديدة، إنما كان يناور بهدف شقّ صف قادة الكتلة القومية التي كان الوزراء الأربعة المستقيلون الآخرون (الجادر والحسين والحافظ والركابي) قد تعاطفوا معهم، أو هم غدوا يحسبون علي الكتلة المذكورة.
واكتشف ناجي طالب ان رئيس الوزراء طاهر يحيي ليس له رأي محدد، بل ولا فرق عنده بين خروج المستقيلين أو بقائهم ضمن الوزارة.
ولما كان الاعتقاد السائد لدي ناجي طالب أن وحدة الصف، وخصوصاً في تلك الفترة التي تمّيزت بتعدد الكتل السياسية والقيادات ذات التوجهات القومية، هي وحدها الأساس في حلّ ناجع لمشكلات العراق ذات الاهمية القصوي، وبضمنها الاقتتال القائم في ربوع شمال الوطن، والعلاقات مع الشركات الاجنبية المستثمرة لنفط العراق، ومهمة الانتقال الي الحياة النيابية مجدداً، والتوصل الي حلول لتذليل مصاعب المواطنين المعاشية، فقد استطاع بعد بذل جهود حثيثة أن يُقنع عبد السلام عارف علي عودة الوزراء الخمسة المستقيلين معاً، إذا ما سحبوا طلبات استقالاتهم طوعاً.
لقاء في دار عبد الستار علي الحسين
تم ترتيب لقاء في دار عبد الستار علي الحسين وزير العدل المستقيل في حي الصليخ المجاور للأعظمية، عصر الحادي عشر من تموز (يوليو) ليجمع بين ناجي طالب والوزراء المستقيلين الخمسة، وبينما لم يحضر صبحي عبد الحميد الاجتماع لأسباب شخصية، فقد فوجئ ناجي طالب ـ كما قال لي ـ بوجود شخصين يفترض أنهما علي غير علاقة بالأزمة الوزارية...
أولهما محمد صديق شنشل أحد قادة حزب الاستقلال خلال عقد الخمسينيات، وأول وزير للارشاد بعد ثورة 14تموز (يوليو) 1958 والمرتبط بعلاقة شخصية وثيقة مع الرئيس جمال عبد الناصر،وثانيهما أمين هويدي سفير الجمهورية العربية المتحدة في بغداد، وقد وجدهما جالسين في غرفة الاستقبال قُبيل حضوره، فيما علم ايضاً ان الرئيس عبد السلام عارف في الوقت ذاته قد أمر يعقد اجتماع طارئ لـمجلس الدفاع الأعلي في ديوان وزارة الدفاع، يحضره جميع قادة الجيش والقوات المسلحة، انتظاراً لما تتمخض عنه مبادرة ناجي طالب في غضون تلك الساعات التي اعتبرها عبد السلام (الفرصة الاخيرة لحل الأزمة الوزارية) كما يعتقد السيد ناجي طالب الذي تحدث طويلاً وعرض بإلحاح ضرورة سحب الوزراء لاستقالاتهم بغية إنهاء هذه الأزمة لصالح الوطن ومستقبله، وقد أيده أمين هويدي بقوة، وكذلك فعل صديق شنشل، حتي حصلت القناعة لدي الحضور جميعاً بما طرحه من رؤيً، ضامنين إقناع صبحي عبد الحميد (الغائب) بسحب استقالته.
صديق شنشل يقلب الموازين
كان ناجي طالب فرحاً عندما توجّه نحو جهاز الهاتف ليتصل بـالرئيس عبد السلام عارف لإعلامه بالنتيجة المُسرّة التي توصل اليها، عندما التقطت اُذناه صوت صديق شنشل (سمعه الجميع) وهو يقول:
ولكن سحب الاستقالة طوعاً شيء مهين يا أبا طالب!..
فإذا بالآخرين ـ عدا امين هويدي ـ يتراجعون فوراً عن موقفهم الذي كان قبل دقائق إيجابياً.
وعلي الرغم من توجيه ناجي طالب لوماً شديداً الي صديق شنشل علي تلك العبارة التي أطلقها من غير داعٍ، الا أن (المحاولة الاخيرة) باءت بالفشل (كما اعترف هو نفسه في لقاء معه).
تعديل وزاري
خاب أمل ناجي طالب بعد أن ذهبت جهوده المضنية التي استغرقت أياماً عديدة سُديً، فعاد مضطراً الي الرئيس عبد السلام عارف ليخبره بذلك الإخفاق، مقترحاً عليه قبول الاستقالات جميعاً، وضرورة إجراء تعديل وزاري بتكليف وزراء جدد يحّلون محل المستقلين حيث صدر مرسومان جمهوريان، كانا قد اُعدّا مساء ذلك اليوم، تضمّن أولهما قبول تخلي الوزراء المستقلين عن مناصبهم، بينما نص الثاني علي تعيين خمسة وزراء جدد وهم:
عبد اللطيف الدراجي للداخلية، وخضر عبد الغفور للعدل، والدكتورعبد الرحمن محمد خالد القيسي للثقافة والارشاد، والدكتورجميل الملائكة للصناعة، وأحمد هادي الحبوبي للشؤون البلدية والقروية.
رواية السيد صبحي عبد الحميد
لا يختلف صبحي عبد الحميد مع ناجي طالب في اُسس الأزمة الوزارية، ولكنه يرويها من خلال وجهة نظره الخاصة، إذ يقول:
إنه قدم استقالته في الثلاثين من حزيران (يونيو) 1965 عندما علم بسفر عبد الكريم فرحان الي القاهرة، وبعد ان أيقن مع عدد من أعضاء كتلته القومية بنيّات عبد السلام عارف حياله، وحيال زميله عبد الكريم فرحان، التي نقلها عارف عبد الرزاق إليهم قبل سفره الي باريس ولندن، طالباً عدم إخبار صبحي وفرحان بها، لذلك فقد أمست الأزمة الوزارية مشكلة حقيقية، ليس لمجرد تقديم ستة وزراء استقالتهم فحسب، ولكن بعد ان ألمح وزراء آخرون لرئيس الوزراء طاهر يحيي بأنهم ينوون الاستقالة ايضاً من هــذه الــوزارة التي غدت ناقصة بشكل خطير.
وكان الرئيس جمـــال عبد الناصر قد دخل علي الخط، وحاول جاهداً التوسط الشخصي للمرة الثانية، فبعث برسالة شفهية نقلها السيد ناجي طالب الذي كان في القاهرة في طريق عودته من الجزائر ـ كما اشرنا آنفا ـ رجا فيها صبحي عبد الحميد أن يسحب استقالته، بينما ألح عليه ايضاً ناجي طالب، وعارف عبد الرزاق الذي عاد من لندن، قبل أن ينضم إليهما في المسعي نفسه اللواء الركن محسن حسين الحبيب وزير الدفاع.
ويقول السيد صبحي عبد الحميد انه لم يكن أمام هذا الإصرار إلا أن يوافق ـ مبدئياً ـ علي سحب استقالته، ولكن شريطة تجميد استقالة الوزراء الخمسة الآخرين، في حين تعهّد ناجي طالب بإقناع عبد السلام عارف برفض استقالة جميع الوزراء المستقيلين، عدا تلك التي تقدم بها عبد الكريم فرحان والذي بات التعاون بينه وبين رئيس الجمهورية مستحيلاً.
ولكن.. عندما حضر ناجي طالب أمام رئيس الجمهورية لإقناعه بما تعهد به، فإن الرئيس لم يوافق إلاّ علي إبقاء صبحي عبد الحميد فقط، رافضاً استمرار الوزراء المستقيلين الآخرين جميعاً، مصرّاً علي قبول استقالتهم دون استثناء، لذلك فقد أصرّ صبحي عبد الحميد علي ضرورة قبول استقالته أيضاً، نظراً لأن استمراره في الوزارة دون زملائه الآخرين، الذين تضامنوا معه شخصياً يعتبر تصرفاً غير أخلاقي، لا يمكن أن يقبله او يرتضيه لنفسه.
وهكذا قُبلت الاستقالات الستّ جميعاً مساء الحادي عشر من تموز (يوليو) 1965 دون استثناء، وتم التعديل الوزاري.
للراغبين الأطلاع على الحلقة الثامنة:
http://www.algardenia.com/fereboaliraq/9403-2014-03-13-21-11-14.html
572 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع