سيكولوجيا العنف اليومي وخطاب الكراهية: قراءة نفسية في حادثة إطلاق النار بمدينة أربيل (٦ آب ٢٠٢٥)

د. نزار گزالي، اربيل – دكتوراه في علم النفس

سيكولوجيا العنف اليومي وخطاب الكراهية: قراءة نفسية في حادثة إطلاق النار بمدينة أربيل (6 آب 2025)

“الذكورة السامة والهيبة الاجتماعية الزائفة”

في السادس من آب 2025، هزّ مدينة أربيل حادث إطلاق نار مأساوي على الطريق المؤدي إلى قضاء كويسنجق، أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص، بينهم الرياضي المعروف “حمودي رياض”. حادثة لم تكن مجرد نزاع فردي، بل مرآة لبنية نفسية ومجتمعية مشحونة، وظلال كثيفة من الغضب المكبوت، وضعف التماسك الاجتماعي، وغياب الضوابط النفسية والسلوكية، تغذيهما بيئة إعلامية غير مسؤولة.

السرد الواقعي للحادثة
وفقًا لتصريحات الشرطة، بدأ الحادث بخلاف بين عامل في محطة الوقود واثنين من الزبائن العرب بسبب تسرب كمية من الوقود، ما أدى إلى شجار كلامي تطور بسرعة إلى تدافع. في لحظة انفعال، قام أحد العاملين بإحضار سلاح ناري وأطلق النار بشكل عشوائي، مما أدى إلى مقتل الزبونين ومواطن ثالث من أربيل. الجاني أُلقي القبض عليه فورًا، وأكدت الشرطة أنه لا يعاني من اضطرابات عقلية ولا توجد عداوة سابقة بينه وبين الضحايا.

أولًا: سيكولوجيا الغضب المنفلت والنزاع اليومي
1. الإحباط المتراكم وسوء إدارة التوتر
الحادثة تمثل تطبيقًا عمليًا لنظرية الإحباط-العدوان (Dollard et al., 1939)، حيث يتحول الإحباط الناتج عن ظروف يومية مرهقة إلى سلوك عدواني مدمّر، في غياب أدوات الدعم النفسي أو استراتيجيات تنظيم الانفعالات.

2. الاندفاعية كسلوك خطير في مواقف التوتر
استخدام السلاح بهذا الشكل العشوائي يشير إلى سمة الاندفاعية العالية لدى الجاني، وهي مرتبطة بضعف السيطرة المعرفية والعاطفية، وإمكانية اضطراب في وظائف القشرة الجبهية الأمامية، المسؤولة عن ضبط السلوك وتقييم المخاطر.

3. سهولة الوصول للسلاح وتأثيره على تصعيد النزاعات
وجود السلاح في بيئة مدنية كالمحطة يُحوّل أي توتر إلى مأساة في ثوانٍ. السلاح لم يُستخدم كوسيلة دفاع، بل كأداة لاستعادة “الهيبة” في لحظة مشحونة، وهذا يعكس ثقافة مجتمعية بحاجة لإعادة ضبط قيمي.

4. الذكورة السامة والهيبة الاجتماعية الزائفة
وجود شخصية رياضية قوية ومشهورة بين الضحايا قد يكون فاقم الشعور بالتهديد أو فقدان السيطرة لدى الجاني، خاصة في سياق مجتمعات تُعرّف الرجولة بالهيمنة الجسدية والردع.
هنا تظهر بوضوح ملامح ما يُعرف بـ”الذكورة السامة”، حيث:
• يُربط الحفاظ على الكرامة باستخدام العنف.
• يُعدّ التراجع أو التسامح ضعفًا، لا نضجًا.
• يتشوه مفهوم الرجولة ليُصبح مرادفًا للعدوانية، لا للسيطرة الذاتية.

هذه الثقافة تُشجّع على التصعيد، وتُحمّل الذكور عبئًا نفسيًا خانقًا لا يجد له متنفسًا إلا في لحظة انفجار.
وبحسب المقاطع المصوّرة للحادث، فقد دخلت سيارة إلى المحطة وعلى متنها شخصان بقصد تعبئة الوقود، وخلال العملية انسكب على الأرض ما يقارب لترين أو ثلاثة من البنزين، فطالب عامل المحطة العميلين بدفع بدل الوقود المنسكب، لكنهما رفضا ذلك. عندها نشب شجار، توجّه على إثره أحد عمال المحطة إلى الداخل، وأخرج سلاحًا من خزانة تعود لعناصر أمن (سكيوريتي)، ليُطلق النار بشكل عشوائي على الحاضرين، ما أسفر عن مقتل العميلين، بالإضافة إلى شخص آخر من أهالي مدينة أربيل كان واقفًا أمام المحطة أثناء الشجار.

ورغم هذا السرد المتداخل و بعض التفسيرات غير المنطقية، وكثرة التحليلات العشوائية التي طغت على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن البعض ذهب إلى تبرير القتل كوسيلةٍ للدفاع عن النفس، في حين ربطه آخرون بخلفيات عرقية وقومية، بحكم أن اثنين من الضحايا كانوا من إخواننا العرب من أبناء بلدنا. سايكولوجيًا، ومهما كان تسلسل الحادث، وأيًا يكن الملام أو المقصر، فإن ذلك لا يبرر ارتكاب جريمة قتل.

ثانيًا: التحيزات المعرفية وتسييس الجريمة
1. ربط الحادثة بالهوية القومية بشكل غير مبرر
رغم نفي السلطات لأي دافع عرقي أو سياسي، سارع البعض إلى تصوير الحادثة كصراع بين “العرب” و”الكورد”، مما يُعبّر عن انحياز معرفي تأكيدي يسعى لإعادة إنتاج السرديات الهوياتية المشروخة.

2. الإساءة إلى المكوّنات العراقية كمؤشر على عُقد النقص
الإساءة إلى الكورد أو تقليل شأنهم كما حدث في بعض المنصات الإعلامية (بوصفهم “كانو حمالين في سوق الشورجة”) يُشير إلى عُقد نقص نفسية لدى البعض ممن لا يشعرون بالثقة الذاتية، فيُهاجمون الآخر المختلف كآلية دفاعية تُعرف في علم النفس بـالإسقاط التعويضي.
فكل من يُحاول أن يُصغّر قومية أو طائفة، لا يفعل ذلك من باب التفوّق، بل من باب الشعور الداخلي بالهشاشة.

ثالثًا: التداعيات النفسية للمجتمع

1. الصدمة النفسية الفورية والطويلة الأمد
الشهود، والعاملون، وحتى الزوار العاديون للمكان، معرّضون لتطوير أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) مثل الكوابيس، نوبات الهلع، أو الانعزال الاجتماعي، خاصةً مع تكرار مثل هذه الأحداث.

2. انتقال الذعر والقلق عبر عدوى المشاعر
وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في تضخيم مشاعر الخوف، عبر إعادة نشر المشاهد المؤلمة والتعليقات الغاضبة. هذه الحالة تُعرف بـ”العدوى العاطفية”، وتُؤدي إلى تعميم القلق، وزيادة الاستقطاب، حتى في المناطق البعيدة عن الحدث.

رابعًا: الإعلام المُحرِّض كأداة تهديد مجتمعي

1. تشويه الواقع ليس وليد اللحظة

لم يبدأ الإعلام التحريضي بعد هذه الحادثة، بل سُجّلت خلال الأسابيع السابقة عدة حالات من التحريف والتضليل، منها:
• الإساءة العلنية للكورد في بعض القنوات، والقول إنهم “كانوا حمالين في الشورجة”.
• تحريف ما جرى في تموز الماضي في إقليم كوردستان من اشتباك محدود بين بعض العشائر وقوة أمنية، ليُصوَّر كصراع داخلي يهدد مستقبل اقليم و
• نشر شائعات مضللة عن أن “أهالي
قضاء خبات يفرون من الإقليم باتجاه الموصل”، رغم أن ذلك عارٍ عن الصحة.

هذه الرسائل الإعلامية لا تنقل معلومة، بل تزرع شرخًا نفسيًا واجتماعيًا خطيرًا.

2. الإعلام غير المهني وتأثيره على الصحة النفسية العامة
• يُظهر بعض المجرمين كـ”أبطال” حسب انتمائهم القومي، وهذا انحراف أخلاقي.
• يُكرر عرض مشاهد العنف مما يُفاقم من الصدمة المجتمعية.
• يُشيطن جماعات كاملة، بدلًا من إدانة الجريمة كفعل فردي لا يُمثّل أحدًا.

3. ضرورة ضبط المحتوى الإعلامي والتواصل المجتمعي
• معاقبة كل من يُحرّض على العنف أو القتل، حتى بتعليق على منصة رقمية.
• فلترة عرض الأحداث العنيفة وعدم الترويج للقتل أو تصوير الجاني كرمز للبطولة.
• تشجيع إنتاج برامج توعية نفسية وسيكولوجية لشرح مخاطر الكراهية والانجرار وراء الخطاب العنصري.

خامسًا: واجب المؤسسات الرسمية والمجتمعية

1. رسائل تطمينية من الإقليم
ينبغي على سلطات إقليم كوردستان أن تُجدد التأكيد على أن:
• سلامة الوافدين من باقي المحافظات العراقية هي مسؤولية مُقدسة.
• الإقليم كان ملاذًا آمنًا للنازحين من النظام السابق، وضحايا الطائفية، ومَن هربوا من داعش.
• لا يزال يحتضن عشرات الآلاف من العرب، الإيزيديين، المسيحيين، والتركمان، فضلًا عن اللاجئين السوريين والإيرانيين، دون تمييز.

2. تعزيز ثقافة اللاعنف في المدارس والإعلام
• إدخال مفاهيم المواطنة والأخوة والتسامح في المناهج الدراسية.
• التأكيد أن السلاح قد يستخدمه حتى طفل أو معاق حركيًا، لكن نتائجه كارثية على الجميع.

سادساً: التحليل النفسي والاجتماعي لمُبرِّري القتل في التعليقات الإلكترونية

1. الآليات النفسية الدفاعية (Psychological Defense Mechanisms)
• التبرير العقلاني: تحويل القتل إلى “حق” عبر حجج كاذبة.
• الإسقاط: لوم الضحية أو الترويج لنظريات مؤامرة.
• التفكك الأخلاقي (باندورا): تبرير العنف عبر إزالة المسؤولية أو لوم الضحية.

2. الهوية الجماعية
• وفق نظرية “الهوية الاجتماعية”، يُبرر البعض العنف دفاعًا عن الجماعة، حين يشعرون بخطر على “نحن” ضد “هم”.

3. البيئة الرقمية
• التخفي الرقمي يُحفز على الكتابات المتطرفة.
• الخوارزميات تدعم التصعيد والاستقطاب.

4. التطبيع مع العنف
• كثرة المشاهد الدموية تُضعف مشاعر الخوف والتعاطف، وتُسهِّل التبرير، كما تُظهر دراسات علم الأعصاب.

• ضرورة فضح وتحليل سيكولوجية مَن يُبررون القتل في تعليقاتهم، إذ أن تبرير الجريمة هو شكل من أشكال المشاركة النفسية فيها.

سابعاً: كيف نواجه الكراهية؟

1. مواجهة خطاب التبرير
• كشف المغالطات وتفكيك سرديات العنف.
• التثقيف القانوني بأن القتل جريمة، لا يمكن تبريرها.

2. العقوبات القانونية
• تطبيق قوانين تجريم التحريض على الكراهية، حتى في التعليقات.
• ملاحقة مروّجي العنف على المنصات الإلكترونية.

3. تعزيز المواطنة والتماسك
• نشر برامج إعلامية نفسية لتفكيك خطاب الكراهية.
• تفعيل التربية على السلم والمواطنة في المناهج الدراسية.

4. استعادة الرواية الإنسانية
• التركيز على أن الضحايا بشر، لا أرقام.
• إبراز نماذج التعايش والمصالحة.

ثامناً : العلاج النفسي كوقاية وطنية

لا يمكن بناء مجتمع سليم دون رعاية الصحة النفسية. في ظل التوترات الاجتماعية، الضغوط الاقتصادية، والانفعالات اليومية، يصبح الدعم النفسي والعلاج ضرورة وليست رفاهية.
الذهاب إلى أخصائي نفسي لا يعني الضعف، بل هو وعي وقائي يُجنّبنا التهور والندم والعنف.

الخاتمة: العنف لا يولّد إلا عنفًا، وتبرير القتل يفتح أبواب الجحيم. كل إنسان قادر على الضغط على الزناد، لكن النتائج كارثية عليه وعلى من أطلق النار عليه. نحتاج اليوم إلى خطاب عاقل، إنساني، يُدين القتل بصوت واضح، ويُعلي من شأن الإنسان كإنسان، لا كهوية أو عشيرة أو قومية، لا تقتل أخاك مرتين، مرة بالرصاص، وأخرى بالكراهية. ما جرى في أربيل ليس حادثة فردية، بل كاشف نفسي عن واقع هش. إذا لم نواجه خطاب الكراهية والإعلام التحريضي والتفسير العرقي المغلوط للأحداث، سنشهد مزيدًا من الحوادث، بل من الانهيارات.
يجب أن نُدين الجريمة، أيًا كانت هوية الجاني.
يجب أن نُحاسب المُحرض، أيًا كانت منصته.
ويجب أن نُعالج أنفسنا، قبل أن نُدمّر بعضنا.
لنجعل من هذه الحادثة درسًا مؤلمًا لكن شجاعًا، نعود به إلى إنسانيتنا، ونزرع بذور المحبة بدلًا من نار الكراهية.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1055 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع