شحرورة العراق عفيفة إسكندر - الجز الثاني

الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل

 

شحرورة العراق عفيفة إسكندر - الجز الثاني

تميّزت عفيفة إسكندر بثقافتها العالية وتعلقها الكبير بالعراق والتصاقها بترابه. وكانت شخصية مثقفة ومحبة للشِّعر وتواقة للأدب، وقد افتتحت عفيفة إسكندر في بيتها في منطقة المسبح في الكرادة صالون (مجلس) خاص بها، كان يضم أبرز رجالات السياسة والأدب والفن والثقافة في البلاد.

كما كان صالون عفيفة إسكندر لا يخلو من المناظرات السياسية والشِّعرية والفنية والأدبية، حيث كان يضم كبار السياسيين والأدباء والفنانين، منهم نوري السعيد وابنه صباح والوصي عبد الإله وتوفيق السويدي وسعيد قزاز وخليل كنة وفائق السامرائي وخطاب الخضيري وأكرم أحمد وحسين مردان وجعفر الخليلي وإبراهيم علي والمحامي عباس البغدادي. كما كان من رواد مجلسها أيضا العلّامة الدكتور مصطفى جواد الذي كان مستشارها اللغوي.

وكان من رواد مجلسها من الفنانين حقي الشبلي وعبد الله العزاوي ومحمود شوكة وصادق الازدي والمصور آمري سليم والمصور حازم باك. وقد ذكرت عفيفة في لقاء معها أن الكاتب والفيلسوف علي الوردي صاحب (مهزلة العقل البشري) كان من أحب الكُتاب العراقيين إليها.

مصادر العطاء:
يقول الأستاذ الدكتور سيّار الجَميل: " لقد غنت عفيفة إسكندر اللون البغدادي، الذي يبدو غائباً تماما اليوم، عن مجمل الغناء العراقي، وقد احترمت نفسها مبتعدة عن تأدية ألوان المقام العراقي، ولم تعرف أطوار الغناء الجنوبي، وكثير من المختصين لا يعرفون سر ذلك الوضوح في أغانيها ذات اللحن السريع الذي ينظر إليه راهناً بمثابة نقلة نوعية في طبيعة الأغنية العراقية التي كانت سائدة آنذاك. لقد نقلت عفيفة إسكندر اللون الغنائي السائد في الموصل ومناطق الشمال إلى بغداد، وعليه فهي ليست تأثيرات الأدوار المصرية، بل تلك المواويل التي تنحدر أطوارها من جغرافية الموصل الشمالية.

لقد تضمنت أغانيها الأولى نكهة الشارع البغدادي، بعباراته الشائعة وبلاغته الخاصة وبنحته للجملة من لهجة موصلية صعبة بإحالاتها وامالاتها لا يمكن أن تتداخل معها أبدا لهجات المناطق الأخرى؛ بيد أن أجواء بغداد المخملية في عقدي الأربعينات والخمسينات قد استوعبتها وحملت مزاجا متمدنا لا يكاد يفصل بين ما تفرزه الحياة، وما يستعيره الفن من تلك الإفرازات، فيتدثر بإيحاءاتها الثرية، ما أمكن له أن يتدثر دون أن يفقد تلك الصلة.

لقد شكّلت عفيفة ريادة من نوع ما في الأغنية العراقية المتمدنة التي تخلو من لواعج الجنوب أو نواح الريف او بكائيات المقام.. وكأنها تمّثل رمز زمن ذهبي بكل خصبه الابداعي العراقي في الشعر والقصة والفنون التشكيلية ونجوم المسرح والغناء، فالمجتمع المدني العراقي بدأت ملامحه تتشكل للتو، وجاء ظهور التجمعات الثقافية: جماعة بغداد للفن التشكيلي، والفرق المسرحية الأهلية كفرقة الزبانية، مترافقاً مع ثورة الشعر الحديث، وحركة الرواد، ومع التجديد في القصة.. وعصرنة الحياة التي يبدو من الصعب تكرارها ثانية في نسيج شرائح المجتمع العراقي ونخبه، حيث لم تكن المسافة واضحة بين الملهى والمقهى، والصالة والصالون، فكلها كانت منتدى للحوار والحياة معاً".

عفيفة إسكندر والسياسة:
كانت عفيفة إسكندر هي المغنية الأولى بالعصر الملكي، وكان كبار المسؤولين في الدولة العراقية يطلبون ودّها ويطربون لصوتها ويحضرون حفلاتها. وكان الملك فيصل الأول من المعجبين بصوتها، أما نوري السعيد رئيس الوزراء فكان يحب المقام العراقي والجالغي البغدادي وكان يحضر كل يوم اثنين إلى حفلات المقام، كما كان يحضر حفلاتها.

كما كان كبار الشخصيات يدعون عفيفة إسكندر لحفلاتهم الخاصة، وكان أفراد العائلة المالكة يحضرون حفلاتها.

لقد غنَت عفيفة إسكندر في حفل تتويج الملك فيصل الثاني في العام 1952 وكذلك في حفل خطوبة الملك في العام 1956. كما كانت عفيفة إسكندر أول مغنية افتتحت بها برامج التلفزيون العراقي لدى تأسيسه في عام 1956.

بعد مذبحة قصر الرحاب وسقوط الملكية في 14 تموز 1958 تولي عبد الكريم قاسم السلطة، وكان عبد الكريم قاسم يحب غنائها ويحترمها. وبعد عبد الكريم قاسم تولى السلطة في العراق عبد السلام عارف سنة 1963، وكان عبد السلام عارف يحاربها ويضيّق عليها، ولهذا أُُهملت وغُيّبت في عهده وظلت مُغيّبة.

ولم تغنِّ عفيفة لقادة الثورة ولم تطلب منها الملكية أن تغني لها رغم أنها كانت على صلة وثيقة بها، بل كانت عفيفة إسكندر تغني في عيد الجيش كما غنّت للملك فيصل الثاني.

مما نُقل عن عفيفة إسكندر أنها قالت متعجبة بعد سقوط الملكية: "أعجب على الناس: قالوا للملك لا نُصدّق أن نراك عريساً، وبعد أسبوع واحد من هذا الكلام قتلوه"!.

يقول الناقد عادل الهاشمي: "عُرف عن عفيفة إسكندر التزامها الشديد بالنظام الملكي واحتفالها المتواصل برجالاته وكانت تمتلك علاقات خاصة ومميزة برئيس الوزراء نوري سعيد الذي كان من أشد المعجبين بصوتها واناقتها، وقد سجلت بصوتها مشاركتها في أغلب الأحداث السياسية التي حدثت في العهد الملكي، لأنها انطلقت بموقعها هذا من إيمان بأن هذا العهد يعمل جاهدا من أجل ترضية الأطراف والتشكيلات السياسية آنذاك".

الصدمة الكبرى والاعتزال:
ولعل أقوى صدمة نالتها عفيفة إسكندر كانت في فجر 14 تموز/ يوليو 1958 عندما سقط النظام الملكي في العراق، فاعتبرت ذلك اليوم أسودا في تاريخ العراق وبكت على أولئك الرجال الذين فارقوا الحياة. وغادرت العراق بعد 14 تموز 1958 ثم عادت بعد سنة 1963، وأول ما غنت لفراقهم وأظهرت حزنها الشديد على فراقهم، فغنت (حركت الروح) و (جوز منهم ناس ما عدهم وفا).

https://www.facebook.com/watch/?v=499460828705136

وبعد 17 تموز 1968 أوقفت عفيفة إسكندر نشاطها الفني، واحتجبت معتكفة في بيتها، واستطاعت ان تخفي معارضتها السياسية من خلال صمتها الطويل وبقيت تعيش لوحدها مع كلبها الوفي في بيتها في بغداد مع ابقائها علاقتها القديمة بأصدقائها وصديقاتها القدامى، وكانت تذهب صباحا لتشتري حوائجها ثم تقفل راجعة إلى بيتها.

ثم عاودت عفيفة إسكندر نشاطها الفني وغنت (يا يمة انطبني الدربين) في عام 1974 في حفل راس السنة، كذلك غنت (يا عاقد الحاجبين) وكانت هذه الأغنية آخر ظهور لها على شاشة التلفزيون وكانت بالألوان، واستمرت بالغناء ثم اعتزلت عام 1977.

أقاويل عنها:
نتيجة لثقافتها العالية واهتماماتها بالجوانب الأدبية والشعرية، كانت تربط عفيفة إسكندر علاقات وصداقات حميمة مع العديد من الشخصيات الثقافية والاجتماعية والسياسية في المجتمع البغدادي.

وهناك قضية ذكرها الدكتور على الوردي في كتابه "لمحات من تأريخ العراق" وذكر أن لعفيفة إسكندر علاقة مع بكر صدقي الذي كان قد أهداها مبلغ 10000 دينار عراقي، وهو مبلغ كبير جدا في ذلك الوقت. ونتيجة لإعجاب الزعيم عبد الكريم قاسم بصوتها فقد ظهرت شائعات أخرى عن وجود علاقة عاطفية بينهما، علما أن عبد الكريم قاسم لم يتزوج في حياته.

يقول طارق حرب: "وعفيفة إسكندر ملكة الغناء التي زَيفت تاريخها إحدى المسلسلات العراقية عندما صوروها صديقة للفريق بكر صدقي صاحب انقلاب ١٩٣٦ المقتول سنة ١٩٣٧ في حين أن عمرها كان ١١ سنة زمن بكر صدقي والتي توفيت في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين... ومائدة نزهت وهل عشقت الزعيم عبد الكريم قاسم حيث غنت له ما لم تقدمه فنانة أخرى وكيف لحقها وصف ابنة النائب ضابط...".

يا حافر البير لا تغمج مساحيها:
يذكر الفنان إلهام المدفعي نقلا عن والدة حسن فهمي المدفعي أنه بعد انقلاب بكر صدقي اُقيم احتفال في أحد المنتديات البارزة في بغداد وطلب بكر صدقي أن توجه الدعوة إلى المغنية عفيفة إسكندر للغناء فيه، وقد حضرت عفيفة إلى الاحتفال من دون رغبة بعد ضغط والحاح من الأصدقاء وبقية المسؤولين الذين ترتبط معهم بعلاقات طيبة من نظام نوري سعيد والوصي عبدالاله. وما أن بدأ الاحتفال صعدت عفيفة إلى خشبة المسرح حتى جاء صوتها قويا وبرنين مؤثر وبلهجة معبرة لا تخلو من تذمر ووعيد، فشدت بأغنية: "يا حافر البير لا تغمج مساحيها خاف الفلك يندار وانت تكع بيها". وعندما التفت بعض الحاضرين إلى جهة جلوس بكر صدقي وجدوا أن وجهه قد تجهم وامتقع بحمرة لا تخطئوها العين أبدا.

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

876 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع