من الأديرة إلى المصانع … حكاية شراب مثير للجدل
حين تطأ الأقدام أرض اسكتلندا، يخيل للزائر أنه في بلد يعرف كيف يحوّل أبسط الموارد إلى مصدر فخر وثراء. فالسياحة هنا لا تقتصر على المناظر الطبيعية أو القلاع، بل تمتد إلى تحويل تفاصيل الحياة اليومية إلى "منتج سياحي": قرى وادعة تتحول إلى وجهات، متاحف تُعيد للتاريخ نبضه، سجون قديمة تُفتح كمغامرة للزائرين، ومصانع تروي حكاياتها. ومن بين هذه الأخيرة تبرز صناعة ارتبطت باسم اسكتلندا حتى غدت رمزًا ثقافيًا واقتصاديًا.
إنها صناعة الويسكي، التي تعود قصتها الطويلة إلى الأديرة في القرن الخامس عشر، عندما استخدم الرهبان تقنيات التقطير في صنع مشروبات عطرية وعلاجية أسموها "ماء الحياة". سرعان ما تسربت التجربة إلى المزارعين الذين وجدوا في وفرة شعيرهم ومياه الينابيع الصافية فرصة للكسب، فوسعوا النشاط لزيادة الربح ودخلوا مع الرهبان في منافسة دفعت الملك جيمس الرابع إلى التدخل بمنح رجال الدين عام 1494 إذنًا باستخدام الشعير للتقطير… ومنذ تلك اللحظة لم يتوقف هذا المنتج المثير للجدل عن التدفق.
لكن الطريق لم يكن سهلاً، فمع ازدياد الإقبال على التقطير، فرضت السلطات ضرائب قاسية جعلت من كل قطرة تنتج في الخفاء تحديًا حقيقيًا، وانتشرت "المعاصر السرية" في وديان بعيدة، وانتشر رجال القانون بمطاردة المُقطّرين كما لو كانوا قُطّاع طرق. وتروي الحكايات الشعبية حوادث عن مداهمات انتهت بإراقة براميل كاملة في الأنهار، وصدامات أوقعت قتلى وجرحى بين الفلاحين والجنود، وحرائق هائلة اندلعت في القرى حين كان المقطّرون يحاولون إخفاء نشاطهم على عجل. وهكذا صارت صناعة "ماء الحياة" تحمل معها أخبار موت ودمار في بعض الأحيان.
في المقابل، تناقل الناس قصصًا لا تخلو من الطرافة، جاء فيها أن بعض القرويين كانوا يخفون البراميل بين شواهد القبور، أو يدفنونها في حقول البطاطس لتفادي أعين الجباة. وفي الشمال الغربي اشتهر مهرّبون بنقل براميل صغيرة تحت تنانيرهم التقليدية، في مشهد أقرب إلى الكوميديا السوداء. قصص كَثُرَ تداولها حتى غدت جزءًا من الأسطورة الشعبية التي تُروى حتى اليوم، مانحة هذه الصناعة هالة من المغامرة لا تقل جاذبية عن المنتج نفسه.
مع بداية القرن التاسع عشر تغيّر المشهد. فقد جاءت الثورة الصناعية بوسائل تقطير أكثر كفاءة، وسمحت للمصانع المرخّصة بأن تتفوّق على منافسيها السريين. ومع ذلك ظل الجدل قائمًا بين الحكومة التي رأت في الويسكي موردًا ضريبيًا مغريًا، والفلاحين الذين اعتبروه تقليدًا راسخًا لا يجوز التضييق عليه. وهكذا غدا هذا المنتج رمزًا مزدوجًا: للذوق الشعبي من جهة، وللمقاومة الريفية ضد السلطة من جهة أخرى.
واليوم، وبعد قرون من الشد والجذب، لا يكتفي الاسكتلنديون بتصدير منتجهم، بل يصدرون قصته نفسها في شكل جولات سياحية، أبرزها في مصنع (Glenturret) الذي يُسجَّل كأقدم معامل البلاد.
في بهو الاستعلامات الأنيق اجتمع نحو عشرين سائحًا من جنسيات مختلفة بعضهم عرب، ليستقبلهم مرشد ستيني متقاعد، لبق، يروي الحكاية كمن يسرد أسطورة. تبدأ الجولة من غرفة الحبوب حيث تتراص الأكياس، مرورًا بعمليات الطحن فالخلط فالتخمير داخل أحواض خشبية قديمة، وصولًا إلى أماكن البراميل التي يرقد فيها السائل الكحولي في شبه عتمة، سنواتٍ حتى تنضج النكهة، تمتد من ثلاثة كحد أدنى ملزم قانونيًا إلى أكثر من نصف قرن بقليل. فالخشب والزمن هما العاملان الحاسمان في تقليل الكم، وتبديل النكهة، وزيادة السعر.
في القاعة الأخيرة، اختتم المرشد جولته بدرس في الاقتصاد أكثر منه في التذوق: كيف يتحول الشعير والماء والخشب إلى صناعة عابرة للقرون. وعند الباب، قبل التفرق، قال أحد السياح الخليجيين:
"لم أزر مجرد مصنع لشراب محلّ اختلاف، بل نافذة على عقلية تعرف كيف تحوّل البسيط إلى ثروة، وكيف تُعيد تعريف الهوية المحلية لتكون موردًا عالميًا." تجربة قد لا تكون مألوفة لكل سائح، لكنها بالتأكيد درس قابل للتأمل لكل من يفكر في تحويل موارده – أكانت حبوبًا أو أفكارًا أو شعائر – إلى صناعة مستقبلية.
880 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع