الجيش العراقي بين التأسيس والاحتراف … شهادة الماريشال مونتغمري قائد العلمين - اللواء الركن علاء الدين حسين مكي خماس

اللواء الركن
علاء الدين حسين مكي خماس

الجيش العراقي بين التأسيس والاحتراف… شهادة الماريشال مونتغمري قائد العلمين

المقدمة – يوم تأسيس الجيش العراقي (6 كانون الثاني 1921)

في كل عام، ومع حلول السادس من كانون الثاني، يستعيد العراقيون واحدة من أهم المحطات في تاريخ دولتهم الحديثة؛ يوم تأسيس الجيش العراقي، ذلك الحدث الذي لم يكن مجرّد إعلان عن قيام مؤسسة عسكرية، بل كان إيذانًا بولادة ركنٍ أساسي من أركان الدولة، وعنوانًا مبكرًا لفكرة السيادة والانتماء والهوية الوطنية الجامعة.
فالجيش العراقي، منذ لحظاته الأولى عام 1921، لم يُنشأ بوصفه قوة سلاح فحسب، بل بوصفه مشروعًا وطنيًا متكاملًا، يهدف إلى حماية الكيان الوليد، وترسيخ مفهوم الدولة، وصهر أبناء العراق من مختلف المناطق والانتماءات في مؤسسة واحدة تقوم على الانضباط والواجب والشرف. وقد أدرك الآباء المؤسسون، وفي مقدمتهم الملك فيصل الأول، أن الدولة لا تُبنى بالقوانين وحدها، بل تحتاج إلى مؤسسة تحميها وتمنحها الهيبة والاستقرار.
وفي هذه المناسبة، التي نستحضر فيها تاريخ الجيش العراقي بكل ما حمله من تضحيات وتجارب، تبرز أمامنا وثيقة ذات دلالة خاصة، تعكس المكانة المهنية التي بلغها هذا الجيش في سنواته الأولى، وهي شهادة القائد البريطاني المعروف المارشال برنارد مونتغمري، أحد أبرز قادة الحرب العالمية الثانية، في حق ضباط الجيش العراقي الذين تلقوا تدريبهم في الكليات العسكرية البريطانية. وهي شهادة لا تأتي من باب المجاملة، بل من رجل عُرف بصرامته المهنية ودقته في تقييم الرجال والجيوش.
ومن هنا، تأتي هذه السطور محاولة لقراءة مسيرة الجيش العراقي من زاوية مهنية هادئة، تستحضر نشأته، وتبرز هويته، وتستعيد بعض محطاته المضيئة، بعيدًا عن المبالغة أو التبسيط، وبروح الوفاء لمؤسسة كانت – ولا تزال – جزءًا أصيلًا من تاريخ العراق الحديث.

الجيش العراقي وبناء الهوية الوطنية
منذ سنواته الأولى، لم يكن الجيش العراقي مجرد تشكيل عسكري يؤدي مهام أمنية، بل كان أحد أهم أدوات بناء الهوية الوطنية العراقية الحديثة. ففي زمن كانت فيه الدولة ما تزال في طور التشكل، أدّى الجيش دورًا مركزيًا في ترسيخ مفهوم الانتماء إلى الوطن قبل أي انتماء آخر، وجمع أبناء العراق من مختلف البيئات والمناطق تحت راية واحدة، قائمة على الانضباط والواجب والولاء للدولة.
وقد تميّزت مرحلة التأسيس بوعي واضح لدى القيادات العسكرية والسياسية بأهمية بناء جيش مهني، لا يرتبط بالأهواء ولا يخضع للولاءات الضيقة. لذلك جرى الاهتمام منذ البداية بالتعليم العسكري النظامي، فأنشئت الكلية العسكرية، ثم كلية الأركان، وتم إرسال البعثات إلى بريطانيا والهند لاكتساب أحدث أساليب التدريب والقيادة. ولم تمضِ سنوات طويلة حتى بدأ الجيش العراقي يكوّن شخصيته الخاصة، الجامعة بين الانضباط الشرقي والدقة المهنية الغربية.
هذا التكوين المتوازن أسهم في ترسيخ تقاليد عسكرية صارمة، تقوم على احترام التسلسل القيادي، والالتزام بالأوامر، وتحمل المسؤولية، وهي قيم انعكست لاحقًا في أداء الضباط والمراتب، وفي السمعة التي اكتسبها الجيش داخل العراق وخارجه. ولم يكن من المصادفة أن يحظى الضباط العراقيون بتقدير واضح في الدوائر العسكرية الدولية، ولا سيما في المؤسسات التي تلقوا فيها تدريبهم.
وفي هذه المرحلة المبكرة، بدأ الجيش العراقي يتحول من مجرد قوة ناشئة إلى مؤسسة دولة حقيقية، لها تقاليدها وأعرافها ومكانتها الاجتماعية، وأصبح الانتماء إليه مصدر فخر واحترام، ليس فقط لمنتسبيه، بل لعموم المجتمع العراقي الذي رأى فيه رمزًا للوحدة والهيبة والسيادة.

الجيش العراقي بين واجب الداخل ومهام الدفاع الوطني
وخلال مسيرته الأولى، اضطلع الجيش العراقي بدورٍ أساسي في ترسيخ سلطة الدولة وحماية كيانها الناشئ من التحديات الداخلية والخارجية على حدّ سواء. فقد واجه، في سنواته المبكرة، عدداً من حركات التمرد والاضطرابات في مناطق مختلفة من البلاد، شمالاً وجنوباً، وتمكّن – في أغلب تلك المحطات – من أداء واجبه في حفظ الأمن والاستقرار، في ظروف سياسية معقدة وإمكانات محدودة، وبروح مهنية تعكس التزامه بمهمته الوطنية.
وفي الوقت نفسه، لم يكن الجيش العراقي بمنأى عن التحديات الكبرى التي فرضتها البيئة الإقليمية آنذاك، إذ وجد نفسه طرفاً في مواجهات عسكرية نظامية مبكرة، أبرزها أحداث عام 1941 خلال حركة مايس، حيث خاض الجيش مواجهة غير متكافئة مع القوات البريطانية. ورغم شجاعة المقاتلين، فقد كانت نتائج تلك الحرب قاسية على المؤسسة العسكرية، إذ تكبّد الجيش خسائر كبيرة، وتعرّض لتقليص واسع في تشكيلاته، كما حُرم لفترة من امتلاك قوة جوية فعالة، الأمر الذي انعكس سلبًا على قدراته القتالية في تلك المرحلة.
غير أن هذه النكسة لم تكن نهاية الطريق،بل شكّلت دافعًا لإعادة البناءوالتحديث.  فمنذ عام 1941 وحتى اندلاع حرب فلسطين عام 1948، شهد الجيش العراقي مرحلة إعادة تنظيم شاملة، جرى خلالها إرسال بعثات عسكرية مكثفة إلى بريطانيا والهند، وإعادة تأهيل القيادات والكوادر وفق أسس مهنية حديثة. وقد لعبت القيادة الجديدة للجيش، ممثلة برئيس الأركان الفريق الركن صالح صائب الجبوري، ومعاونيه من القادة الأكفاء أمثال نور الدين محمود وآخرين،

وحسين مكي خماس دورًا محوريًا في هذه المرحلة، عبر الإصرار على إعادة بناء الجيش على أسس علمية ومهنية رصينة.

المقدم الركن عبدالكريم قاسم( في اليسار) في جبهة القتال في فلسطين

وفي ظل هذا الجهد المنظم، استعاد الجيش العراقي جزءًا مهمًا من عافيته، وبدأ يستعيد مكانته كقوة نظامية محترفة في المنطقة، وهو ما تجلّى بوضوح في أدائه خلال حرب فلسطين عام 1948، حيث شارك في القتال ضد القوات الصهيونية، وسجّل مواقف مشهودة في عدد من المعارك، عكست مستوى الانضباط والكفاءة التي بلغها آنذاك.

ومن رحم هذه المرحلة، برز جيل من القادة العسكريين الذين شكّلوا لاحقًا أعمدة المؤسسة العسكرية العراقية، ومنهم عمر علي وصالح زكي توفيق ونجيب الربيعي ورفيق عارف، ، وغازي الداغستاني، وغيرهم من الضباط الذين جمعوا بين الخبرة الميدانية والتكوين العلمي، وأسهموا في ترسيخ تقاليد عسكرية احترافية تركت أثرها العميق في تاريخ الجيش العراقي.
وهنا، تحديدًا، تبرز أهمية شهادة القائد البريطاني الشهير المارشال برنارد مونتغمري، التي تعكس نظرة مهنية موضوعية لمستوى الضباط العراقيين، وتمنحنا مدخلاً مهمًا لفهم المكانة التي بلغها الجيش العراقي في نظر قادة الجيوش العالمية آنذاك…

شهادة مونتغمري… دلالة مهنية لا مجاملة سياسية
تكتسب شهادة المارشال البريطاني برنارد مونتغمري أهمية خاصة، ليس فقط لكونه أحد أبرز قادة الحرب العالمية الثانية، بل لأن تقييمه للضباط العراقيين جاء في سياق مهني بحت، بعيدًا عن المجاملات أو الحسابات السياسية. فمونتغمري، الذي عُرف بدقته الصارمة في الحكم على القادة العسكريين، لم يكن ممن يمنح الثناء جزافًا، بل كان يقيس الكفاءة بمعايير التدريب والانضباط والقدرة على القيادة.
وفي رسالته المؤرخة في السابع من آب عام 1943، عبّر مونتغمري بوضوح عن تقديره لضباط الجيش العراقي، وخصّ بالذكر العقيد رفيق عارف، مشيرًا إلى أنه كان من بين طلابه المتميزين في كلية الأركان، وأنه كوّن عنه انطباعًا عاليًا من حيث الكفاءة العسكرية والقدرة المهنية. وهذه الشهادة، الصادرة عن قائد قاد واحدة من أهم معارك القرن العشرين، لا يمكن النظر إليها إلا بوصفها اعترافًا صريحًا بالمستوى الذي بلغه الضابط العراقي آنذاك.
ولا تكمن أهمية هذه الشهادة في بعدها الشخصي فحسب، بل في دلالتها العامة على نوعية التكوين العسكري الذي تلقاه الضباط العراقيون في تلك المرحلة، وعلى مستوى الانضباط والجدية الذي طبع أداء المؤسسة العسكرية العراقية ككل. فقد كانت تلك المرحلة تمثل ذروة التفاعل المهني بين الجيش العراقي والمدارس العسكرية الغربية، حيث جرى نقل الخبرات وتكييفها مع الواقع العراقي، بما أسهم في بناء تقاليد راسخة في القيادة والتخطيط والعمل الميداني.
ومن هنا، فإن شهادة مونتغمري لا تُقرأ بوصفها مديحًا فرديًا، بل باعتبارها وثيقة تاريخية تعكس مكانة الجيش العراقي في نظر واحدة من أعرق القيادات العسكرية في العالم، وتؤكد أن ما بلغه هذا الجيش من مستوى مهني لم يكن وليد المصادفة، بل ثمرة جهد طويل وتراكم مؤسسي واعٍ.

الخاتمة
في ذكرى السادس من كانون الثاني، لا نستحضر تاريخًا عسكريًا فحسب، بل نستعيد مسيرة مؤسسة وطنية راسخة شكّلت، عبر أكثر من قرن، أحد أعمدة الدولة العراقية الحديثة. فالجيش العراقي، منذ تأسيسه عام 1921، كان عنوانًا للانضباط، ورمزًا للوحدة، ومدرسةً للقيم العسكرية التي صاغت أجيالًا من الرجال على معنى الواجب والشرف والمسؤولية.
وعلى امتداد هذه المسيرة الطويلة، مرّ الجيش العراقي بمراحل مختلفة، واجه فيها تحديات جسيمة، وتعرض لتحولات عميقة فرضتها ظروف البلاد وتغيرات الزمن. غير أن جوهر هذه المؤسسة ظل قائمًا، مستندًا إلى تقاليدها المهنية العريقة، وإلى إرثها المتراكم في بناء الضباط وإعدادهم وتحملهم لمسؤولياتهم الوطنية.
وبعد عام 2003، فإن قواتنا المسلحة التي وُلدت من جديد، دأبت على استلهام تاريخها العريق وتجاربها المتراكمة، ساعيةً إلى إعادة تنظيم صفوفها واستعادة دورها الوطني، مستندةً إلى ما ترسّخ في وجدانها المؤسسي من قيم الانضباط والواجب وخدمة الوطن. ورغم اختلاف السياقات والظروف، ظل الانتماء إلى المؤسسة العسكرية قائمًا على ذات الأسس التي قامت عليها منذ تأسيسها، بوصفها جيش دولة لا جيش مرحلة، وحارسًا للسيادة والاستقرار.
وإذ نستحضر اليوم هذه المسيرة الممتدة، فإننا نفعل ذلك إيمانًا بأن الجيوش العريقة لا تُقاس بلحظة زمنية، بل بتراكم التجربة، وبقدرتها على النهوض من جديد، والاستفادة من دروس الماضي، ومواصلة أداء واجبها في حماية الوطن وصون سيادته.
وفي ذكرى تأسيسه، نوجّه التحية إلى منتسبي الجيش العراقي في كل مواقعه، ونتمنى له دوام التوفيق والنجاح في أداء مهامه الوطنية، وأن يبقى، كما كان دائمًا، سياج العراق الحصين، وركنًا من أركان استقراره ووحدته.
كل عام والجيش العراقي بخير،
وكل عام والعراق أكثر أمنًا وقوةً واستقرارًا.

رسالة الجنرال مونتغمري – الأصل



ترجمة الرسالة
المقر العام – الجيش الحادي والعشرون
7 آب 1943
عزيزي الجنرال
أشكركم على رسالتكم المؤرخة في 18 حزيران، والتي بعثتم فيها تهانيكم وتمنياتكم الطيبة. لقد كان من لطفكم أن تكتبوا إليّ.
يرجى أن تنقلوا أطيب تمنياتي إلى ضباط وجنود الجيش العراقي، الذي أكنّ له تقديراً عالياً. ، وقد سررتُ باستلام الرسالة من العقيد عارف؛ فقد كان أحد طلابي في كلية الأركان، وقد كوّنت عنه رأياً رفيعاً فيما يخص قدراته العسكرية.

المخلص لكم
ب. ل. مونتغمري
جنرال

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

888 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع