فارس الجواري
تشخيص بلا علاج... الحكومة العراقية وملف الطيران المدني بين وضوح الرؤية وأنعدام التنفيذ
رغم تعاقب الحكومات منذ عام 2003 وازدحام الخطط الإصلاحية لها مازال قطاع الطيران المدني العراقي واحدا من أكثر القطاعات تعقيدا وتراجعا في الأداء والسبب غياب التنسيق المؤسسي وتداخل الصلاحيات بين الجهات المعنية وأقصد بذلك مايحصل من تدخل واضح في قرارات الجهة التشريعية المتمثلة بسلطة الطيران المدني العراقي والجهات الخدمية في هذا القطاع من قبل هيئة المستشارين في رئاسة الحكومة وهو ماأثر سلبا على أداء هذه الجهات في تجاوزها مشاكل متأزمة ورثتها من سنوات سابقة على الرغم من ان هذه الجهات سواء التشريعية او التنفيذية نجحت في تقديم تشخيص واضح ومباشر لمكامن الفشل في هذا القطاع امام الادارات العليا في الحكومة المنتهية صلاحيتها هذه الايام وبرغم وضوح الرؤية لكنها فشلت في طريقة العلاج لمكامن الخلل المتجذر في القطاع لتبقى مشكلات الطيران المدني العراقي معلّقة بين الاعتراف بها وعجز الإرادة التنفيذية عن تجاوزها.
أن أول ما واجهته الحكومة المنتهية ولايتها في تشخيص اخطاء القطاع هو واقع سلطة الطيران المدني العراقي فيها وهي الجهة التشريعية والتدقيقية لجميع نشاطات قطاع الطيران المدني داخل العراق حيث ورثت هذه السلطة أزمة غياب الغطاء الدولي عن اعمالها لعدم تجاوز هذه السلطة برنامج تدقيقي خاص بالمنظمة الدولية للطيران المدني الايكاو يخص السلامة التشغيلية للطيران ومفروضة على كل سلطات الطيران حول العالم وعدم اجتيازه معناه عدم الاعتراف بالتشريعات التي تصدرها السلطة الغير مجتازة التدقيق كونها لم تواكب التطور والحداثة للمعايير الدولية وهو ما انعكس سلبًا على سمعة الطيران المدني العراقي عالميًا وهو مؤشر لخلل بنيوي في هيكلية السلطة وهذا يجعل آليات الرقابة والتقييم التي تضمن الالتزام بالمعايير غير موثوق بها .
أما حال مخدمي هذا القطاع سواء في النقل الجوي او المطارات او في النشاطات الاخرى لم يكونوا باحسن حال من المشرفين على اعمالهم واقصد هنا السلطة حيث لايزال ناقلنا الوطني شركة الخطوط الجوية العراقية عاجزة عن تجاوز الحظر الأوروبي المفروض عليها منذ سنوات يضاف الى ذلك فشل اداري متمثل بسوء ادارة الجانب الفني للشركة مما جعلها اسيرة الأعطال المتكررة لطائراتها التي اوقفت طيران اكثر من ثلث اسطول الشركة عن الطيران لاسباب في مجملها اشارة الى التداخل بين القرار الفني والبيروقراطية الإدارية برغم كفاءة كوادرها العاجزين عن اداء مهامهم لهذه الاسباب وبالعودة للحظر الاوربي على الشركة فقد قامت هذه الحكومة باجراء مستغرب تمثل بتعاقدها مع لجنة من الخبراء الاجانب وتحديدا من الاياتا بملايين من الدولارات لمساعدة الشركة من تجاوز عقبة الحظر وللمرة الثالثة منذ عام 2016 وكالمرات السابقة لم تفلح هذه اللجنة برغم مرور اكثر من سنتين على عملها في رفع هذا الحظر وهي التي تظهر للاعلام بين الحين والاخر بتصريحات عن انجازاتها من الاعمال التي تجاوزت نسب متقدمة تصل لاكثر من 70 % ولكن الحظر مستمر ليومنا هذا ومن المتوقع ان يستمر لنهاية عام 2026 ليدخل عامه 12 من هذا الحظر ولاسباب غير مقنعة.
لقد شهدت المطارات الحكومية العراقية المخدم الرئيسي الثاني في قطاع الطيران المدني العراقي وعلى وجه الخصوص مطاري بغداد الدولي والموصل تأثيرات سلبية في ملف تأهيل الأول وتشغيل الثاني بعد افتتاحه مما يعكس صورة إضافية لضعف الإدارة وتداخل الصلاحيات حيث أثارت البرامج الاستثمارية المعتمدة لتأهيل مطار العاصمة جدلاً واسعًا حول جدوى التعاقد خاصة في ظل تسليم منفذ سيادي مهم وذو عوائد مالية مجزية إلى مستثمر خاص وفق نسب شراكة تمنحه حق إدارة كامل المطار مقابل إنشاء صالة للمسافرين وهو ما يتعارض مع الأعراف السائدة في مثل هذه العقود التي غالبًا ما تضمن للحكومة الحصة الأكبر لضمان بقاء القرار السيادي بيدها , بالاضافة الى ملفات أخرى ذات أهمية في هذا القطاع أخفقت الحكومة في تحريكها بشكل فعلي لعل أهمها ملف توطين التدريب في ظل التحديات التي تواجه هذا القطاع كونه لم يحظ بالاهتمام الكافي من قبل الجهات الحكومية المعنية برغم الحاجة الملحة إلى بناء قدرات وطنية متخصصة حيث لا يزال الاعتماد قائماً على إرسال المتدربين إلى الخارج بتكاليف مرتفعة ترهق ميزانيات الدولة علما إن الهيكل القائم لمركز التدريب التخصصي التابع لشركة الخطوط الجوية العراقية لايزال شاخصاً ومنذ سنوات دون استكمال بناءه يمثل دليلاً واضحاً على الاخفاق تفعيل المبادرات الوطنية التي تؤدي الى استدامة الموارد البشرية للقطاع .
رغم أن هذه الحكومة نجحت في تقديم تشخيص واقعي ومفصل لمشكلات قطاع الطيران المدني العراقي من خلال الاجتماعات واللقاءات التي عقدها المعنيون بهذا الملف إلا أن ذلك لم يُترجم إلى خطوات عملية تؤدي إلى إصلاحات تشريعية وهيكلية تتناسب مع حجم الأزمات التي يعاني منها القطاع , ويبقى السؤال المطروح هل سيظل ملف الطيران المدني رهينًا للتشخيص دون خطوات إصلاحية حقيقية في الحكومات القادمة؟ أم أن الحكومة الجديدة ستتحلى بالإرادة السياسية اللازمة لتجاوز البيروقراطية المزمنة وتباشر بإعادة هيكلة جذرية للقطاع عبر إدارة قادرة على الانتقال من مرحلة التشخيص إلى فضاء التنفيذ الفعلي؟
تشرين الثاني 2025

911 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع