أحمد العبدالله
فاضل البرّاك ، نزار الخزرجي، صدّام حسين..وغزو الكويت
كانت لقاءات الدكتور فاضل البرّاك بالفريق نزار الخزرجي تكاد تكون يومية في بيت الأخير, أو في مزرعته. وفي أحد الأيام تأخّر عن زيارته على غير العادة, وعندما حلَّ المساء ولم يأتِ, انتابته الهواجس والقلق, ولم يتمكن من الاتصال به بسبب عطل شبكة الهاتف, أو ربما لأسباب أمنية. وعندما لم يأتِ في اليوم التالي أيضا, طلب من زوجته الذهاب لبيت البرّاك في المنصور لمعرفة السبب, ولما وصلت البيت وفتحت زوجته(أم علي)لها الباب, أخبرتها قائلة؛(لقد أخذوه)!!.
كان ذلك هو المشهد الأخير في علاقة صداقة متينة ربطت بين الرجلين وامتدّت لأكثر من عقدين, منذ أن عملا معا في الملحقية العسكرية في موسكو مطلع السبعينات. ويضيف الفريق الخزرجي في كتابه؛الأزمة, الصادر في 2024, قائلًا؛ إنه بعد إحالته على التقاعد بعد ستة أسابيع من غزو واحتلال الكويت, أخذ يقضي وقت فراغه الطويل في مزرعته في منطقة الرضوانية, والتي لا تبعد كثيرا عن الموقع الرئاسي, مع(الأخ والصديق فاضل البرّاك), كما يصفه, وهما يتجاذبان أطراف الحديث في الكارثة التي بدأت ملامحها تلوح في الأفق القريب. وكانت آراؤهما تكاد تكون متطابقة بما سيحلُّ بالعراق.
كان الفريق نزار الخزرجي رئيس أركان الجيش؛(1987-1990), والذي لم يكن له علم أو دور بموضوع غزو واحتلال الكويت, قد قام بعد أيام قليلة من الغزو باستطلاع مفصّل لميدان المعركة المتوقعة في الكويت بناء على أمر الرئيس صدّام حسين, وأعدَّ تقريرين للموقف السوقي والعملياتي لميزان القوى العسكري بين الطرفين, خلص فيهما إلى إن خسارتنا تكاد تكون مؤكدة في أي مجابهة عسكرية قادمة مع التحالف الدولي, وستكون العواقب وخيمة على العراق نفسه.
وبموازاة ذلك قدّمت اللجنة المشكّلة التي يرأسها الدكتور فاضل البرّاك توصية للرئيس بضرورة الانسحاب من الكويت واللجوء للحلول السياسية تجنبا للكارثة الوشيكة. وكانت هذه المشورة المخلصة والنزيهة التي قدّمها الرجلان كلٌّ من موقعه, بمثابة وصفة إنقاذ للبلاد من مصير مظلم, فيما لو أخذ بها صدّام حسين. ولكن تلك النصائح الموضوعية أدّت للإطاحة بهما من منصبيهما, ثم عجّلت بتصفية البرّاك جسديا, وهروب الخزرجي ونجاته من مصير مماثل!!.
إذ غضب صدّام حسين غضبا شديدا على الخزرجي وأحاله على التقاعد, واتهمه بـ(التخاذل)!!, وذلك خلال اجتماع القيادة العامة للقوات المسلحة بتاريخ 17-9-1990. وكذلك فعل مع البرّاك, فقد أحاله على التقاعد أيضا من منصبه الذي شغله بعد إعفائه من إدارة جهاز المخابرات عام 1988 وتعيينه بموقع ثانوي لا قيمة له, وهو المستشار السياسي للرئيس.
كان الدكتور فاضل البرّاك يبث شكواه بمرارة للخزرجي عن عملية تشهير وتشويه منظمة يقوم بها ضده سبعاوي إبراهيم الحسن, بديله في جهاز المخابرات, ولجان التحقيق التي بدأ بتشكيلها لتوجيه أصابع الاتهام والإدانة للبرّاك, للطعن في سمعته ونظافته, من باب(الثأر والانتقام)!!. وكان سبعاوي يتعمّد التحدّث بكلام مسيء عن البرّاك أمام أشخاص يعرف أنهم سيوصلون له الكلام, كنوع من أساليب الضغط والحرب النفسية.
ويذكر الخزرجي؛إن البرّاك حكى له عن تأثّر الرئيس بكلام الحلقة الضيقة التي تحيط به وهيمنتها عليه, من أقاربه المقرّبين من أمثال؛علي حسن المجيد؛(رجله للمهمات الصعبة, كما يصفه), وحسين كامل وعبد احمود, بفقرهم المعرفي المدقع, وشهاداتهم الدراسية المتدنّية. ويضيف الخزرجي؛إن البرّاك كان دقيقا وصريحًا في تقييمه للحاشية المحيطة بصدّام بحكم معرفته بجذورهم العائلية الأولى في قرية العوجا. وإن هؤلاء, أو بعضهم, هم من زيّن له قراره الكارثي باجتياح الكويت.
والمصيبة الكبرى ليست هذه, بل إنه بعد كارثة(أم المعارك)والهزيمة السياسية والعسكرية والاستراتيجية التي لحقت بالعراق بسبب سوء تقدير صدّام حسين والحلقة المقرّبة منها, فبدلا من تطهير منظومة الحكم من أولئك المنافقين الذين ورّطوه وكذَبوا عليه, وإعادة الاعتبار للرجال الذين صدَقوه ونصحوه, فقد فعل العكس تماما, إذ احتفظ بالكذّابين, بل قام بترقيتهم وتكريمهم, وضيّق على المخلصين, فتم اعتقال الدكتور فاضل البرّاك, وهو أحد أهم القيادات السياسية والأمنية بعد 1968, وقتله بعد لصق تهمة التجسس به ظلما وبهتانا. وفرّ الخزرجي بجلده بعد أن تعرّض لكثير من المضايقات.
ويضيف الخزرجي؛إنه التقى بصدّام حسين عندما كان البرّاك معتقلا في المخابرات, وإن صدّام تحدث له عن(الأخطاء)التي ارتكبها البرّاك خلال وجوده على رأس الأجهزة الأمنية والتي دفعت لاعتقاله. وأخبره بأن التحقيق مع البرّاك قد انتهى واكتمل, موجِّهًا سؤالا للخزرجي؛هل ترضى أن يقوم(خويّك)البرّاك بزرع حشرة الأرضة(النمل الأبيض)في بيوت الرفاق القياديين الذين هو ليس على وفاق معهم؟!. ثم ألقى(تهمة)أخرى؛هل يصحُّ أن يقوم البرّاك بشراء بيوت ومزارع المسفّرين من التبعية الإيرانية الذين تم تسفيرهم عام 1980, بأسعار رمزية مستغلا موقعه الوظيفي؟!. دون أن يتطرّق أبدًا في هذا اللقاء لقضية التجسس, والتي يبدو إنها قد ألصقت به لاحقا, وتم تلفيقها له وإعدامه بموجبها(ظلما وعدوانا).
وبعد انتهاء المقابلة استدعى صدّام مرافقه(عبد احمود)وأمره بتسليم إضبارة التحقيق مع البرّاك للخزرجي لكي يطّلع عليها. ولكن عبد احمود لم يفعل, وماطل في ذلك مرارا, رغم تكرار مطالبة الخزرجي له بتنفيذ أمر الرئيس. وعندها, يقول الخزرجي؛إنه أيقن إن عبد احمود هو أحد عناصر المجموعة الضالعة في التآمر على فاضل البرّاك.
ويقول الخزرجي؛ عندما كان البرّاك يزورني خلال رقودي في مشفى ابن سينا, كان يأتي مع سائقي متنكّرا بملابس عربية ويغطي نصف وجهه, تحت غطاء إنه من أقربائي, تحسّبَا من عدم إدخاله. وبعد خروجي من المشفى أخذ يزورني في البيت في الأوقات التي لا يوجد فيه ضيوف لدي, وكنّا نتناقش في الأحوال السيئة للبلاد بعد كارثة غزو الكويت. وخشية من بطش النظام اقترحت عليه مغادرة العراق لسنة أو سنتين ريثما تهدأ النفوس. فأجابني؛ إنه فكّر في ذلك مليًّا, بل واستطلع الطرق والمسالك التي تؤمّن له خروجًا آمنا, ولكنه صرف النظر عن ذلك خشية من الأذى الذي قد يلحق بعائلته الكبيرة.
ويذكر الخزرجي؛عندما شغلت منصب رئيس أركان الجيش كان الدكتور فاضل البرّاك يحضر أحيانًا اجتماعات القيادة العامة للقوات المسلحة مع صدّام حسين, والذي كان يستبقينا نحن الاثنين بعد انصراف الآخرين, وكان الرئيس ينصت لطروحات البرّاك بشغف وإعجاب, وكان محل ثقته وتقديره. ويقول الخزرجي؛إنه حذّر البرّاك بأن تآمُرًا يُحاك ضدّه من قبل حاشية الرئيس, وآخرون غيري حذّروه أيضا, ولكنه كان يطمئنهم بقوله؛(إن الرئيس يعرف جيدا من أنا)!!.
*****
في مقالات قادمة, إن شاء الله, سأفتح هذا الملف المهم.؛ الدكتور فاضل البرّك..البداية ومأساة النهاية. وسأنشر مقابلة شخصية أجريتها مع السائق الخاص للدكتور البرّاك, والذي عمل معه لمدة 12 سنة. ومقابلة شخصية أخرى مع ضابط مخابرات عمل بقربه وتقييمه له. وسأنشر مقابلة صحفية نادرة أجرتها معه مجلة ألف باء عام 1984.
723 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع