أيام زمان الجزء/٦٠ - الدباغة
جاءت مفردة الدباغة في معاجم اللغة العربية من الفعل الثلاثي (دَبَغَ)، الأديم دبغاً ودباغة ويدبغه وأديم مدبوغ، والأديم في دباغه وفي دبغه ومنه مهنة الدباغة أي دباغة الجلود. (الأَدِيم: الجلد الذي يغلّف جسم الإنسان أو الحيوان).
وتعد دباغة الجلود من أقدم المهن التي عرفها الإنسان، منذ أن تكونت لديه ملكة التفكير، وفيما يبدو فأن معرفة الإنسان للدباغة كانت في بادئ الأمر، تعتمد على قيامه بسلخ جلود الحيوانات الكبيرة، ويلتف بها كما هي، ونظراً لأنها كانت تتعفن وتتلف بسرعة، فضلاً عما ينبعث منها من رائحة كريهة، فقد اخذ يبحث عن شيء يتغلب به على هذه العيوب، وربما يكون قد توصل في النهاية إلى استخدام أجزاء من بعض أنواع النباتات في عملية الدباغة.
الدباغة هي عملية تحويل جلد الحيوان بعد سلخه إلى المنتج المفيد أي (الجلد)، وتحفظ الجلد من التعفن وتعطيه مرونة ومتانة، والدباغة تصنيع الجلد ليصبح مرنا، أو يكتسب خواص أخرى مرغوبة.
الجلود المدبوغة بعضها سميك وثقيل، وبعضها الآخر رقيق، ويمكن صباغة الجلود المدبوغة وتلميعها حتى تصير منتجا لامعا وتعد الماشية المصدر الرئيسي للجلود، بينما تمثل جلود الغزال والماعز والغنم مصدرا آخر مهما للجلود، وهي ذات استخدام واسع، وتصنع بعض الجلود المدبوغة المميزة من جلود التماسيح، وسمك القرش والثعابين، وتستخدم الجلود المدبوغة في صناعه الأحذية المختلفة، والأحزمة والقفازات والمعاطف والقبعات، والقمصان والبنطلونات، وحقائب اليد إضافة إلى منتجات أخرى عديدة، ويصنع الجسم الخارجي لكرات اليد وكرات السلة من الجلد المدبوغ، وتستخدم بعض الصناعات السيور المتحركة المصنوعة من الجلد المدبوغ وتعتمد العربات والحافلات، على حوامل محمية بطبقة من الجلد، يتميز الجلد المدبوغ بمقاومته الميكانيكية العالية ودرجة تحمله الكبيرة.
وقد عُرفت الدباغة في بلاد آشور والتي كانت عاصمتها نينوى، من خلال النصوص المسمارية وأكدت على ما تمتع به الآشوريون من مهارة في مهنة الدباغة، كانوا يحصلون على الجلود من الحيوانات المذبوحة والتي تشمل ما يقدم من حيوانات، كهدايا للنذور وقرابين إلى الآلهة في المعابد، أو ما كان ينحر في الولائم الملكية. وتشير كلمة أشجب الواردة في النصوص إلى الدباغ عند الآشوريين ، ويبدو أن الدباغ كان قد احتل مكانة مهمة في المجتمع الآشوري، لأنه يلبي رغبات الناس في تلبية احتياجاتهم من الجلود المدبوغة، ولازالت الدباغة تعتمد على الحرفيين المتخصصين بدباغة الجلود وصناعتها، والنصوص التي تكلمت عن دباغة الجلود في بلاد وادي الرافدين عموما، وبلاد آشور على وجه الخصوص كثيرة، وقد وردت كلمة الدباغ بعبارة صريحة تدل على أن مهنة الدباغة كانت موجودة ورائجة في بلاد آشور، وهناك فرقا بين الجلود القديمة والجلود جديدة السلخ بدلالة ورود كلمة " مسلوخة " في سياق النص الآشوري، والتي تشير إلى أن عملية سلخ الجلود وتهيئتها للدباغة وتعتمد على جلود الحيوانات المذبوحة حديثا. حيث استخدمت مواد نباتية محلية منها قشور الرمان المجففة التي تسمى المدار وهناك مادة أخرى هي مادة العفص، ومن المواد الأخرى مادة دِباغ أو الأرطى زيادة على قشر الجوز ونبتة الدهناء الحمراء اللون الدابغة، أما أدوات الدباغة فكانت بسيطة وتعددت من الأحواض والمقاشط والمرواح والتي تتكون من عصا خشبية تنتهي برؤوس مدببة من الحديد تستخدم لرفع الصوف أو الشعر الذي يطفو في الحوض.
الأنواع الرئيسية من الجلد هي جلد نعل الحذاء، وجلد الطبقة العلوية من الحذاء الشمواه والجلود الناعمة. وتصنع جلود النعل من جلود الماشية السميكة، ومن جلود الحيوانات الكبيرة الأخرى، أما الطبقة العلوية للحذاء تصنع من الجلود الرقيقة للعجول الصغيرة، والماعز والحيوانات الصغيرة الأخرى، أو من شق الجلود السميكة إلى طبقات رقيقة، ويدخل نحو 80% من جميع الجلود المدبوغة في صناعة الأحذية.
تصنع الجلود الملساء غالبا من الطبقة الداخلية لفرو البقر بعد قشطها، وقديما كانت تستخدم جلود الماعز والأغنام في صناعه هذا النوع من الجلود، وتتميز هذه الجلود بنعومتها ومرونتها ومقاومتها للماء ودفئها، ويستخدم هذا النوع من الجلود في صناعة المعاطف والفساتين والبنطلونات وطبقات الأحذية العليا.
بعد تحضير الجلود ونزع اللحم والشعر تبدأ الدباغة وهناك عدة طرق، فالدباغة النباتية وهي احدى الطرق، وتتم في أحواض كبيره مملوءة بمحاليل الدباغة والتي تحضر من الماء ومادة التانين، يمكن الحصول عليها من بعض النباتات مثل أشجار البلوط أو أشجار الشوكران أو أشجار المانجروف أو أشجار السنديان أو أشجار الكيوبراكاو. يزيد العمال من قوة محلول الدباغة تبعا للوقت الذي تترك فيه الجلود في المحلول وعادة يبدأ تركيز محاليل الدباغة عند حوالي 0.5% وتزداد إلى أن تصل إلى 25% عند إتمام عملية الدباغة النباتية وتستغرق عملية الدباغة عادة من شهر إلى ثلاثة شهور، ولكن الجلود السميكة قد تتطلب دباغتها سنة كاملة. وتتميز الجلود المدبوغة بأسلوب الدباغة النباتية بصلابتها ومقاومتها العالية للماء بالمقارنة بالجلود المدبوغة بالكروم، والجلود المعاملة بالدباغة النباتية يتم تشبعها بمواد مثل الزيوت والدهون، وهذا التشبع يجعلها طاردة للماء وأكثر مقاومة للبلل، وتستخدم الجلود المدبوغة بالطريقة النباتية في تجليد الكتب، وصناعه السيور الثقيلة للآلات وفي صناعة بعض الجلود الخاصة، المصنوعة من جلود الأغنام وبعض جلود البقر والنعام ووحيد القرن وكلب البحر.
أما الدباغة بالكروم: فهي أكثر أنواع الدباغة المعدنية انتشارا، وتجرى باستخدام محلول دباغة من أملاح الكرومات (مركبات الكروم)، وقبل البدء بالدباغة تنفع الجلود في محلول من حمض الكبريتيك والملح، ويستمر نقع الجلود حتى يصل محتواها الحمضي إلى درجة معينه، ثم تزال الجلود وتغسل بعدها تنقل الجلود إلى أسطوانات الدباغة المملوءة بالماء وكبريتات الكروم، ويعطي محلول كبريتات الكروم المستخدم في دباغة الجلود لونا أزرق فاتح، وتتم هذه العملية خلال ساعات قليلة وأسرع من الدباغة النباتية، وتكون الجلود المدبوغة بالكروم أكثر مقاومة للحرارة والخدش، وأكثر مرونة وطرية بوجه عام، وتستخدم الجلود المدبوغة في الكروم في صناعة الطبقة العلوية للأحذية، والقفازات والمحافظ والأمتعة وتنجيد المفروشات، وعلى الرغم من جودة الدباغة بالكروم إلا أنه في بعض الحالات قد تعاد دباغة بعض هذه الجلود باستخدام الدباغة الصناعية (مواد دباغة صناعية) ومحاليل الدباغة النباتية وذلك لإكسابها خصائص معينة.
أما الطريقة الأخرى فهي الدباغة المختلطة: تتضمن استخدام كل من الدباغة بالكروم والدباغة النباتية وتستخدم الدباغة المختلطة في إنتاج جلود، ذات خواص معينه مثل جلود الملابس شديدة النعومة أو القفازات أو الطبقة العلوية للأحذية، ويتم في المدابغ الحديثة دباغة معظم الجلود بالكروم إما دباغة كاملة أو دباغة أولية تسبق الدباغة النباتية، وهذه الطريقة تسرع الدباغة الأولية من عملية الدباغة النباتية كما أنها تكسب الجلود المدبوغة نباتيا مرونة أكبر وتتم دباغة بعض نعال الأحذية نباتيا، ولكن عادة تجري لها دباغة أولية باستخدام الكروم.
وهناك طريقة للدباغة بالزيوت: تستخدم في جلد الشمواه المصنوع من جلود الماشية، ويزال الصوف من جلد الماشية ويتم بعد ذلك شق الجلد إلى طبقات، وتستخدم الطبقات القريبة من اللحم في صناعة الشمواه، ويبدأ العمل بكشط الجلد لإزالة الخلايا الدهنية، ثم يتم وضع الجلود المكشوطة في آلة محتوية على مطارق، لدفع زيت كبد الحوت داخل الجلد، وبعد اختراق الزيت للجلد تزال الجلود من الآلة وتجفف ثم يتم فردها وإعطائها مظهراً وبرياً (سطح صوفي لين)، وتستخدم هذه الطريقة في دباغة جلود السرج والجلود المستخدمة في الآلات، وعلى الرغم من جودة الجلد المدبوغ بهذه الطريقة ، إلا أنه تجري أحيانا دباغة تلك الجلود بالكروم قبل دباغتها بالزيت.
وتأتي معظم جلود الحيوانات المستخدمة في الدباغة من منتجي اللحوم والمجازر. وتجري معالجة الجلود قبل نقلها إلى المدابغ للحفاظ عليها من التعفن، وتعالج الجلود بوضع الملح على الجانب اللحمي من الجلد أو بنقعها في محلول ملحي (ماء مملح) أو بتجفيفها جزئيا ثم تمليحها أو بتجفيفها فقط، وبعد عملية المعالجة ترص الجلود في أسطوانات دوارة مملوءة بالماء، ويقوم الماء بإزالة الأوساخ والدم وبإزالة معظم الملح، وإحلال الرطوبة المفقودة أثناء المعالجة، وتبدأ بإزالة طبقة اللحم بعد عملية الغسيل والترطيب تمرر الجلود بآلة إزالة اللحم، وهي آلة مزودة بسكاكين حادة لإزالة كل الدهون واللحوم على الجانب اللحمي من الجلد، وتجري غالباً عملية إزالة اللحم من الجلود في أماكن تصنيع اللحوم، ولا توجد حاجة لإجراء هذه العملية داخل المدابغ، أما نزع الشعر يضع الجلد المزال منه اللحم في أحواض، تحتوي على محلول ماء الجير، الذي يحتوي على كمية صغيره من كبريتيد الصوديوم، ويقوم ذلك المحلول بإضعاف جذور الشعر بالتأثير الكيميائي، وخلال أيام قليلة يسقط الشعر، ثم يمرر الجلد بعد ذلك على آلة نزع الشعر والتي تعمل على إزالته بصورة كاملة، ويحتفظ بالشعر لاستخدامه في صناعه اللباد ومنتجات أخرى، وبعد إزالة الشعر تعاد عملية إزالة اللحم من الجلد لإزالة قطع الدهن الصغيرة المتفككة أثناء عملية نزع الشعر ثم يغسل الجلد بماء نظيف. وتجرى عملية ضرب الجلود بعد إزالة الشعر وذلك بوضعها في حمام من الحامض متوسط القوة لمعادلة محاليل نزع الشعر المتبقية بالجلود وتعد
هذه العملية ضرورية نظرا لأن المحاليل المستخدمة في الدباغة محاليل حمضية، وتضاف الأنزيمات إلى حمام الضرب لتفكيك البروتينات الموجودة في الجلود التي قد تتداخل مع عمليات الدباغة.
يعرض الجلد المدبوغ نباتياً والمجهز لإنتاج نعل الأحذية، لعملية قصر لونه، ثم يعالج بـ كبريتات المغنسيوم وبالزيت ثم يزلق بمستحلب الصابون أو الشحم وأحياناً الشمع، ثم يصقل تحت دولاب معدني ثقيل يحدد ثقله السماكة والصلابة المطلوبة في المنتج، يقشط الجلد المدبوغ بالكروم والمعد لإنتاج وجه الأحذية حسب السماكة المطلوبة ويعالج بمحاليل عدد من المركبات الملونة في برميل دوار لتلوينه باللون المطلوب ويوجد في الأسواق أكثر من مئة نوع من ملونات الجلد المختلفة، ومن المهم أن يتم تشرب مادة التلوين ضمن شبكة الكولاجين في الجلد، تجفف الجلود بعد تزييتها وتلوينها لتكون جاهزة للإنهاء.
إنهاء الجلد بعد الدباغة وتحويله إلى جلد مدبوغ هي من أعقد العمليات. إنها عملية فنية أكثر منها علماً. وهي ليست ببساطة صبغ سطح الجلد لتغطية العيوب في المراحل السابقة أو لتحسين المنتج عن طريق إملاء الخدوش فيه. إنها عملية تمس المتانة وجمال الجلد وتؤدي دوراً مهماً في نوعية المنتج ويجب أن تكون جزءاً من عملية الدباغة بكاملها، يتطلب إنهاء الجلد ثبات الصبغ المستخدم ومرونته، وذلك لأن مادة الإنهاء التي لا تملك التصاقاً كافياً ومرونة كاملة سوف تتقشر وتتكسر، كما يجب أن تكون قادرة على التأقلم مع تغيرات الحرارة أو الرطوبة والجفاف إضافة إلى تقبلها عمليات التلميع العادي في أثناء الاستعمال.
المصدر : مواقع التواصل الاجتماعي
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/mochtaratt/68195-2025-07-12-09-09-28.html
1039 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع