بسام شكري
المواجهة الفكرية الضمانة الحقيقية لنجاح حظر الإخوان المسلمين في الأردن
أن تأتي متأخرًا خير من أن لا تأتي أبدًا
قرار حظر جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، وإن تأخر مقارنة ببعض الدول العربية الأخرى، إلا أنه جاء في الوقت المناسب ليقطع الطريق على مشروع خطير كان يمكن أن يقود الأردن والمنطقة إلى تداعيات كارثية. واليوم، وبينما يتداول الشارع السياسي الأردني مسألة حظر الذراع السياسي للجماعة ممثلًا في حزب جبهة العمل الإسلامي، فإن السؤال المركزي يبقى: هل يكفي الحظر القانوني وحده لمواجهة فكر الإخوان وضمان عدم عودته؟ الجواب الواضح هو: لا.
الإخوان بين التنظيم والحزب والاقتصاد
تاريخيًا، لم يكن الإخوان مجرد تنظيم ديني أو سياسي، بل شبكة متداخلة ذات ثلاثة أوجه:
1. التنظيم الرسمي: الأعضاء المعروفون للمجتمع والدولة.
2. الذراع السياسي: حزب جبهة العمل الإسلامي، الذي خاض الانتخابات وحاول تثبيت حضوره في المشهد السياسي.
3. المنظومة الاقتصادية الخفية: الأخطر والأعمق، حيث تدار أموال الجماعة عبر شبكات أشبه بخيوط العنكبوت، يديرها أشخاص مجهولون للسلطات، ويرتبطون مباشرة بالقيادة الإخوانية.
هذه البنية الثلاثية سمحت للجماعة بالصمود عقودًا، حتى حين تعرضت للحظر أو التضييق. وفي تجارب مثل مصر والإمارات، أثبت الواقع أن تفكيك الذراع الاقتصادي والفكري للجماعة يحتاج سنوات طويلة، إذ ما تزال شركات مرتبطة بالإخوان تعمل علنًا في مصر، فيما تمكنت الإمارات من تقليص نفوذهم لكنها لم تنه وجودهم كليًا. وفي الأردن، بحكم تغلغلهم العميق في المجتمع والاقتصاد، فإن المعركة مع هذا "الخط الثالث" ستكون أطول وأكثر تعقيدًا.
لماذا الحظر وحده لا يكفي؟
القضية الجوهرية لا تكمن في وجود حزب أو تنظيم فقط، بل في الفكر الإخواني الذي ترسّخ في المجتمع منذ تأسيس الإمارة على يد المغفور له الملك عبد الله الأول. هذا الفكر قائم على ثلاثية خطيرة:
• النفاق كسلوك سياسي واجتماعي: حيث أصبح التملق والرشوة والابتزاز أدوات مشروعة لتحقيق الغايات.
• التقية كمظلة للهروب من المحاسبة: إذ يبرر الإخوان التناقض بين ما يظهرونه وما يخفونه باعتباره "حكمة سياسية" أو "مصلحة شرعية".
• غياب الولاء الوطني: حيث يُقدَّم الولاء لفكرة "الإسلام العالمي" على حساب الانتماء للأردن وقيادته الشرعية.
هذا الفكر تسلل إلى المجتمع حتى في تفاصيل الخطاب اليومي، فأصبح شائعًا أن يبدأ البعض حديثه بمقدمات دينية مطولة، ثم يغرق في مدح الدولة والملك، لينتهي إلى التفاف على الموضوع الأساسي دون وضوح أو شفافية. وهو أسلوب بات ينتشر بين مسؤولين وموظفين ومعلمين وحتى داخل الأسر، ما جعله جزءًا من الثقافة العامة.
النفاق من التجربة الى الواقع
أكتب هذه الكلمات ليس من موقع التنظير فقط، بل من تجربة شخصية عشتها بنفسي. قبل عدة سنوات كُلّفتُ بتطوير إحدى المؤسسات الأردنية وإعادة هيكلتها، مع توفير دعم عربي ودولي للأردن عبر هذه المؤسسة. دخلت الاجتماع الأول مع المدير العام بتفاؤل كبير، لكن ما إن بدأ الحديث حتى فاجأني بخطبة سياسية مطوّلة، ثم تبعها بجرعة مفرطة من المديح للدولة ولجلالة الملك، دون أي علاقة بموضوع الاجتماع.
ظننتُها مجاملة بروتوكولية في اللقاء الأول، لكنني فوجئت بتكرار المشهد ذاته في الاجتماع الثاني ثم الثالث: نفس الديباجة، نفس المديح المصطنع، ونفس الدوران حول الموضوع دون أن ندخل إلى صلبه. بعد اللقاء الثالث، وجدت نفسي وقد فقدت الحافز تمامًا، وكأن روحي "طُفّشت" من فرط النفاق والتملق، وانتهى المشروع قبل أن يبدأ.
كانت النتيجة خسارة الأردن فرصة ثمينة للحصول على دعم خارجي ومشروعات تنموية حقيقية، فقط لأن أسلوب النفاق تغلغل حتى في المؤسسات الرسمية. وما أشبه هذه الحالة بغيرها من الفرص الضائعة التي عرفها الأردن عبر العقود بسبب ثقافة المراوغة والتقية والنفاق السياسي.
المواجهة الفكرية: الطريق البديل
إذا كان الحظر القانوني ضروريًا لحماية الدولة، فإن المواجهة الفكرية هي الضمانة الحقيقية لنجاحه. هذه المواجهة يجب أن تكون شاملة ومتدرجة، تستهدف الفكر والسلوك معًا، وتبني بدائل إيجابية للمجتمع الأردني.
1. تحصين الهوية الوطنية
لا بد من ترسيخ الولاء للأردن بوصفه المظلة الجامعة، بعيدًا عن أي ولاءات عابرة للحدود. الهوية الوطنية ليست شعارًا، بل ممارسة يومية تبدأ من المدرسة والجامعة، وتنعكس في الخطاب السياسي والإعلامي، ليشعر المواطن أن انتماءه للأردن هو مصدر فخر واعتزاز حقيقي.
2. مراجعة المناهج الدراسية
كما فعلت الإمارات بعد حظر الإخوان، على الأردن أن يراجع مناهجه لتصحيح المفاهيم المغلوطة، وإزالة ما يعزز الفكر الإقصائي أو الولاءات الخارجية. المناهج يجب أن تعزز قيم الانفتاح والتسامح، وتؤكد أن الولاء للأردن أولًا، وأن الانتماء الوطني لا يتعارض مع القيم الدينية، بل يتكامل معها.
3. بناء حياة حزبية بديلة
لا يكفي حظر حزب الإخوان. بل لا بد من تمكين أحزاب وطنية شابة وقادرة على طرح برامج حقيقية تعالج قضايا الأردنيين في الاقتصاد والتعليم والصحة والبطالة. وجود بدائل سياسية قوية وفاعلة يقطع الطريق على أي فراغ قد تحاول الجماعة استغلاله مستقبلًا.
4. مواجهة النفاق السياسي والفساد
النفاق ليس مجرد عيب أخلاقي، بل هو أول درجات التآمر. لذلك يجب سنّ قوانين واضحة تجرم النفاق السياسي والولاء لغير الوطن، وتغليظ العقوبات على الرشوة واستغلال النفوذ والواسطة. فالمناصب العامة ليست بحاجة إلى التملق، بل إلى الكفاءة والجدية في خدمة الدولة والمجتمع.
5. حملة وطنية شاملة
مواجهة فكر الإخوان ليست مهمة الدولة وحدها، بل هي مسؤولية جماعية. يجب إطلاق حملة وطنية بمشاركة الإعلام والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والشباب، لنشر ثقافة التضامن والاعتزاز بالهوية الوطنية، ومواجهة أي خطاب يقوم على النفاق أو الولاء الخارجي.
نحو أردن أقوى
إن المواجهة مع الإخوان ليست معركة ضد أفراد بقدر ما هي مواجهة مع فكر ترك بصماته على المجتمع لعقود. والحظر وحده لا يضمن النجاح، إن لم يترافق مع مواجهة فكرية شاملة تُعيد بناء الوعي الوطني على أسس صلبة من الانتماء والشفافية والإيجابية.
الأردن اليوم أمام فرصة تاريخية لتحويل الحظر إلى نقطة انطلاق نحو مرحلة جديدة من الاستقرار والازدهار، بفضل وعي شبابه، وحيوية أحزابه الوطنية، وبقيادة جلالة الملك عبد الله الثاني حفظه الله، الذي أثبتت تجربته أن الحفاظ على الأردن واستقراره هو أولوية تتقدم على كل اعتبار.
إن الرهان الحقيقي ليس فقط في منع الإخوان من ممارسة نشاطهم، بل في بناء وطني إيجابي يضمن أن يبقى الأردن أقوى من أي فكر دخيل، وأكثر قدرة على مواجهة تحديات المستقبل بثقة ووعي.
الباحث
بسام شكري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
1023 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع