سبع ساعات في حضن البحر
بدت الباخرة Stena Line، من بعيد، كأنها مدينة نُزعت من اليابسة لتوضع عمدًا فوق سطح الماء. برج عائم من اثني عشر طابقًا، يختفي اثنان منها في الأعماق، يحافظان على محرك ينبض في العتمة كي يُبقيها كائنًا عملاقًا حيًا على صفحة المدى.
صعدنا من مرآب السيارات إلى طابقها العاشر، عبر مصعد يفتح بابه على عالم لا يُشبه سوى نفسه. داخلها لم يكن مجرد باخرة... بل فندق خمس نجوم يطفو: مجمّع تجاري صغير، حديقة من التفاصيل الفاخرة، غرف نوم بفراش ناعم كالغيوم، مطاعم تفيض بأطباقٍ من كل جهات الأرض، سوق حرّة تشبه معرضًا للعطور والشوكولاتة والنبيذ، وركن صغير لكرة السلة، يتّكئ على حافة الأفق، كأن اللعب فوق الماء نوعٌ من الترف، أو ضربٌ من الجنون الجميل.
حين فُكّت قيودُ المرساة كهربائيًا في تمام الساعة التاسعة، لم تهتزّ، بل انطلقت كما تنطلق قصيدةٌ قديمة، تحفظ لحنها جيّدًا، إلى بحرٍ استقبلها بهدوء، كأنّه صديقٌ قديم، يُمهّد لها الطريق، لا يعرقل، لا يُعلّي الموج، لا يختبرها. ومن جانبها، راحت تمشي على السطح برويّة، تمرّ فوقه كما تمرّ اليدُ فوق صفحة كتابٍ مفتوح؛ لا تتوقّف، لا تُخطئ، لا تتردّد.
ساعات من الإبحار، في يوم خفيف المطر، ظلّ طوالها البحر هادئًا يهمس بأفكار لا نعرفها، كأنّ موجه يروي، بصوته الخفيض، ما جرى فوق سطحه وتحت أعماقه في الحربين العالميتين. مياهه التي بدت لنا كأنها مرآة للغيوم، كانت ذات يوم ساحة صراع عالمي، اصطدمت فوقها الأساطيل البريطانية والألمانية في معركة يوتلاند الشهيرة عام ١٩١٦، في أكبر مواجهة بحرية إبان الحرب العالمية الأولى. اختلط طوالها الدخان بماء البحر، وغاصت المدمّرات والفرقاطات إلى أعماق لم تخرج منها أبدًا، وظلّ صداها حتى يومنا هذا يسكن ذاك القاع.
وفي الحرب العالمية الثانية، لم يكن هذا البحر أكثر رحمة. فقد شهد معارك عنيفة وقصفًا جويًّا متبادلًا بين الحلفاء والمحور، وكانت مياهه هي الطريق والشرك في آنٍ معًا، تغطس فيه الغواصات الألمانية لتزرع الألغام، وتطير في أجوائه الطائرات الألمانية في محاولة لقصف الموانئ البريطانية الممتدّة على هذا الساحل، لتتلقّفها البريطانية في معارك سماء كانت تمطر نارًا في النهار، وتكتم الألم في الليل.
تحت هذا السطح الهادئ المخادع هذا اليوم، ترقد حطام سفن، وظلال أطقم بحرية لم تعرف المقابر، وأحلام طيّارين انتهت في مياه لا تحفظ وصايا الراحلين.
كان البحر في تلك الأيام ساحةً لحروب لا ترحم، وفي هذه الأيام يُبحر فوقه الركّاب بطمأنينة، لا يسمعون إلا همس الماء، ولا يشهدون إلا طيورًا متفرقة، كأنها تُنشد تعاويذ السلام فوق مياه لا تريد لها العودة إلى الضجيج.
ما بين هدير الأمس وصمت اليوم، بقيَّ هذا البحر شاهدًا لا ينسى، يحتفظ بتفاصيل لا يرويها كلها، لكنه يُلمّح بها كلما عبرت سفينة، أو سكنت موجة، أو تساءل قلب مسافر عن سرّ هذا السكون.
وبينما تمضي الباخرة في طريقها، ظهرت من بعيد مزارع الرياح. أعمدة عالية، شفرات تدور ببطء، كراقصاتٍ يُؤدّين طقسًا مقدّسًا في هواءٍ صار نفسُه مرئيًّا، وهو يتحوّل إلى طاقة. اقتربتْ منها كما يقترب المؤمنُ من محرابٍ مضيء، مرّت بها متأمّلة. على جانبيها، بدأت تظهر بواخر بأحجام تتفاوت، وألوان تشي بهويات مختلفة، يحمل بعضها حاويات، وبعضها يحمِل حكايات. تشعر الناظر للحظة أن هذا البحر ليس فقط طريقًا، بل مساحة تتقاطع فيها الأحلام. وما زال الشعور لم ينتهِ، أعلن القبطان اقترابه من المرسى، فخفتَت على الفور الرغبة في الوصول، بدت الرحلة وكأنها لم تكن مجرد عبور جغرافي من ضفة إلى ضفة، بل عبور داخلي في النفس، جعلها ترى البحر البعيد عن الوطن ليس كحاجز بين أرضين، وإنما كجسر بين حالتين: من نحن اليوم، ومن سنكون في الغد.
وقبل الاستفاقة، وبعد سبع ساعات أتمّتها كاملة، رست هذه العملاقة برشاقة لم تُخالف سكونها، على رصيف ميناء "هوك" (Hook Van Holland) ... خرج الركاب بسياراتهم في رتلٍ ثلاثي، صامتٍ ومنتظم، يتقدّم كمن يدخل أرضًا مقدّسة. كانت البوابة تنتظر، تتحكّم بها دائرة الجوازات، ومراقبون بسترات فسفورية ونظرات صامتة، يقرأون الوجوه كما تُقرأ الرسائل القديمة. عند هذه النقطة، مدّ الضابط الشاب يده، تناول الجوازات بنظرة فيها يقظة وسكينة، قلّبها كما يُقلّب متصفح خرائط الرحلات الجديدة. ختمها بابتسامة، قال شيئًا باللغة الهولندية، ثم استدرك بالإنجليزية "Welcome"، شعرتُ لحظتها أن الأبواب لا تُفتح بجوازات السفر فقط، بل بعبور النفوس إلى عوالم أخرى من المحبة والتفاعل، ودخول أراضٍ أخرى بنبضٍ جديد، برغبة في البدء، ليس من الصفر، بل من حيث انتهت الموجة الأخيرة.
815 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع