تيه الجنوب/ الجزء التاسع - ضيافة المنتفضين
لقد هدأتُ وانطفأت في داخلي نيران الغيض، كمن دلق على راسه ماءً بارداً في فصل صيف قائظ، لكن عائلتي مازالت داخل السيارة يقلقها الانتظار، ويرهقها الجلوس المقيد، جميع من فيها بحاجة الى الحمام، وقليل من الماء ومثله الى الطمأنة، فقلت عائلتي، رد السيد قاسم:
- هل لديك عائلة؟. لماذا لم تقل لديّ عائلة؟. ولماذا لم يخبرني أحد بوجود عائلة؟.
قالها وأنا واثق من أن قوله لها جاء تخلصاً من حرج إضافي، لقد صاغها بطريقة ذكية، توحي وكأنه لم يعرف بوجودها مركونة في صومعة السيارة. ثم لعن من بعد قوله هذا من تسبب في هذا اللبس غير المقبول لضيف كريم. واثناء معاودة الاعتذار بقدر أكبر من التواضع، طلب من مازن الذي جاء باللواء أسيراً اصطحاب العائلة الى بيت أهله الواسع واعداد العشاء على الفور.
هنا وبهذا الامر الصادر من القائد الميداني أو الحكم الآتي منه، الجهة الأعلى للثوار في المنطقة، تبدل الموقف في صفوف الجمهور المنفعل، وتبدد الانفعال العدائي على الفور، ثم تعالى الهتاف هذه المرة باسمي ثائراً متمرداً على النظام، وازدادت الاصوات التي تلعن الرئيس. ومن جانبها ذهبت العائلة مسرورة الى بيت السيد مازن أول من أضفى على والدهم صفة المساعد الأمين لوزير الصناعة حسين كامل، وكاد أن يتسبب بمقتله قبل تدخل الحظ في غفلة من الزمن غير محسوبة.
للضيف منزلة خاصة، عند أهل المنطقة التي تسيطر على سكنتها قيم اندثرت في المدينة أو اقتربت من الاندثار، وعندما تم تعريفي ضيفاً بعد تدخل القطان، وجبت الحماية والضيافة حتى أقرر بنفسي ماهية الخطوة فيما بعد، ومع هذا انتظرت ما سيأتي، وكانت الخطوة الأولى أن مد القطان يده الى يدي، مسكها بإشارة تدل على أنه راغب في الخروج معاً من هذا المكان، فخرجنا، وفي الممر الكائن بين باب الحسينية والشارع، قال احذر المندسين التابعين الى الدوائر الأمنية، فهناك الكثير منهم بعثوا الى هنا لأغراض التجسس على المنتفضين، نيتهم إفشال الانتفاضة، لقد أمسكنا بالأمس ثلاثة منهم كانوا يقيمون في القرية التي أسكنها، وقد اعترفوا أنهم ضباط من الأمن العامة، انزلتهم طائرات هيلوكوبتر في منطقة نائية من الهور، منها تسللوا الى القرية بهدف نقل المعلومات عن الانتفاضة، والسعي لدفعها باتجاه رفع شعارات دينية شيعية، وقد اعترفوا بالتقارير التي أرسلوها من أجهزة اتصال خاصة، وبالشعارات التي سربوها للجماعات المنتفضة، قبل أن يميتهم المنتفضون قتلاً بالسكاكين. قلت بتعجب مفضوح:
- لماذا؟. فقال:
- أنا أسألك لماذا، وأنت الأعرف بخطط الحزب ونهج تفكير الرئيس؟.
فقلت:
- إنه يفكر أبعد مما نتصور، إنه وبعدما وقع في حرج التمرد الذي اتسع بالضد من حكمه، يفكر بإثارة المحيط العربي بالضد من الانتفاضة التي يريد وسمها في عقولهم أنها شيعية طائفية، وإذا ما نجح سيحصل منهم على دعم سياسي لإعادة تسويق نفسه حاكماً قادراً على قمعها، وقد يحصل أيضاً على ضغط منها على الامريكان لكي يوقفوا خططهم في اسقاطه، إنه يفكر بطريقة مختلفة، وسيستخدم كل السبل للقضاء على الانتفاضة، وبعد أن أكملت عبارتي الأخيرة أعاد عليَّ السؤال:
- ألم تتذكرني؟.
ولما أدرك استحالة التذكر، عرض بعض الوقائع السابقة، علها تفيد في إنعاش هذه الذاكرة المعطوبة فقال:
- لقد أرسلت أخي عدنان الى مؤسستكم قبل شهرين، لمتابعة معاملة نصب أعمدة لنقل الطاقة الكهربائية الى قريتنا، وقد التقاك في مكتبك، وأشاد كثيراً بالترحيب والمساعدة التي حصل عليها في انجاز المعاملة، مع استغراب ابداه من وضع مكتبك الذي قال عنه لا يتناسب مع شامل ذلك الاسم المعروف.
لكن الذاكرة لم تسعفني للتذكر كما يريد، وكأنها أصيبت بعطل، ولإعطائها فرصة إضافية لنبش ما في داخلها عمدتُ من جانبي على مد الحوار عسى أن يكون عاملاً مساعداً لإصلاح العطل، وإخراج الصورة المعرّفةَ للعقيد، فقلت:
- المكتب اخي العقيد قد خلا فعلاً من التزويق، ومن الطموح الوظيفي وإثبات الذات. لقد مات كل شيء من هذا في داخلي منذ اتهامي بالمؤامرة، وحل محله التجنب الحاصل لكل شيء وأي شيء له مساس بالدولة، همي المحافظة على عائلتي، وخير وسيلة لتحقيق هذه الغاية، البقاء في الظل حتى يتحقق الحلم بترك العراق. توقفت قليلاً ثم أكملت:
- لو آن لك الحضور الى ذلك المكتب الذي لم أتآلف معه لوجدت أوراق مكدسة هنا وأخرى هناك، وأهم ما موجود هي الرسومات والمخططات الخاصة بالمحطات الكهربائية وسياقات أمنها. تعمدّتُ إبقائها لإثبات اهتمامي بالعمل وأخذها ذريعة أتعكز عليها في استطلاع الطرق الملائمة للهروب. لقد انشغلت طويلاً بدراسة مواقع المحطات، ومدى قربها من الحدود، وسبل زيارتها وهي قصص طويلة، آملُ أن تتاح الفرصة لروايتها لاحقاً. قال:
- تيقنت أنك لم تتذكرني، وعلى هذا سأقرب لك الصورة أكثر، كنت أنا صديقاً مقرباً من صالح الساعدي، المرحوم صالح، وكنت ألتقي عنده في بغداد مرة كل أسبوع على أقل تقدير، نتعشى سوية في بيته، أتذكر أنك كنت تَحضرُ بعضها. وهنا سأل:
- هل تذكرتني الآن؟.
- نعم تذكرتك، رحم الله صالح كان انساناً وطنياً وشخصا كريماً، أماتوه غدراً. لقد شكلوا فريقاً منا لإماتته، بنوبة تعذيب مقننة، اذ أمرونا برفع جسده الى أعلى ثم تركه يهوى الى الأسفل عدة مرات، حتى تهشم مثل زجاج البلور.
- لقد أماتونا جميعاً، ولم يسلم من نوايا اماتتهم النفسية من بقيَّ منا على قيد الحياة. الخوف والحيرة التي يضعون الواحد فيها تميته خشيتها، والأفكار التي ترد قسراً في اليوم الواحد عدة مرات تعطي التمني الخاص بالموت طعماً خاصاً. لقد عفا عنا كما قال، لكنه لم يتركنا، وزعنا على دوائر الدولة موظفين مبتدئين، ونحن ضباط لا نحسن غير القتال، وسياسيين لا نفقه الا بالسياسة، أحترت عندما أمر بتعييني في المؤسسة العامة للكهرباء، وأحترت أكثر عند استدعائي لإلقاء محاضرة في مدرسة الاعداد الحزبي.
معقول !. كيف؟ ما هذه الغرابة من هذا الرجل الغريب؟. سأل القطان. فأجبته من أنها الحقيقة بعينها، مستمتعاً بقولي من أني وفي شتاء العام الماضي، وعندما كنت جالساً في مكتبي أتصل بيّ رئيس المؤسسة الذي قدّر وضعي، وعرف حقيقتي. كلمني بشكل مُغلف فهمت منه، وصول شخصين من رئاسة الجمهورية يسألان عني، لأمر هام. شعرت وكأن مصيبة قد حلّت عليَّ، بل رعب مفاجئ أصابني بنوبة هلع، أظهرت أمامي بلمحة بصر كل انفعالات الألم المكبوت طوال مدة السجن، ذلك الألم الذي بات يتنقل في أعضاء جسمي دون حرج، لتستقر سهامه في آخر مطافها داخل أذني التي يملأها القيح. استنزفت قواي التي خارت بسرعة، تصورت أني سوف لن أستطيع الصمود وقوفاً أو مشياً وإياهم أمام الموظفين، ومع هذا أرسلت على الموظف كاظم سليم الموجود قريباً من غرفتي، كنت أثق به جداً، سلمته ثمانين ديناراً كل ما أملكه من بقايا راتبي الشهري. رجوته ايصالها الى عائلتي فور مغادرتي الدائرة، معتقداً أن الفصل الأخير من المسرحية قد حل تمثيله في الوقت الحاضر، ولا مفر من نهايته موتاً، كما كُتبت تمثيلاً على الجبين، ومن بعدها جمعت كافة الرسومات وباقي المنجزات التي أضعها في اضبارة خاصة، وسيلة دفاع وحيدة قد تنفع لإثبات الولاء. راجعت مع نفسي السنوات السبع التي كنت فيها مطلق السراح، كمن يدقق في اوراق امتحان، لم أجد فيها لقطة واحدة يمكن أن تعيدني الى ذاك السجن الرهيب. جلستُ على الكرسي الوحيد متوتراً، أفكر في الانتحار، لم أرَ في الانتحار أكثر من بقعة سواد لا أريد بقائها لوثة في سجلي المكتوب، ومن بعدي العائلة التي أحببت. بعد قليل من الاتصال، وصل الشخصان يتبختران. طرقا الباب. نهضت وكأني أتهيأ للسير معهم الى المكان الذي يريدان. دخلا تباعاً، عرّفا عن نفسيهما موظفان من الرئاسة، حضرا للإبلاغ عن التهيؤ الى إلقاء محاضرة في مدرسة الاعداد الحزبي عن دور السيد الرئيس القائد في اعادة تنظيم الحزب بعد نكسة ١٨ تشرين ١٩٦٣.
.....
نزل جسمي المرتعش من الداخل على الكرسي الذي أقف الى جواره، تخاذلت ساقاي على حين غرة، شعرت كأنهما قد انفصلتا بغتة عن جسدي المتهالك، نطقت ودون سيطرة مني على جهاز النطق مستغرباً بكلمة نعم!. أكاد لا أصدق طبيعة الطلب الغريب، إذ لم يرد في بالي القاء محاضرة حزبية يوماً من الأيام.
كررَ الشخص الذي عرّفَ عن نفسه الرفيق حاتم الطلب ذاته، أجبت بعد استجماع قوى التركيز الهاربة في داخلي، هناك رفيق أقدر مني على التعبير عن تلك الفترة الزمنية هو الجنابي، الذي لا يزال يشغل عضوية المكتب العسكري، ثم أني مطرود من الحزب، أخشى الانعكاس السلبي لكلامي على مسيرة الحزب.
انبهر حاتم من الرد، وانفتحت كلتا عيناه وسعاً كدليل على الغضب، وأعاد تأكيده عن طبيعة المهمة التي جاء بها تبليغاً وليس أخذاً للرأي، وحدد بشكل قاطع لا مجال فيه للنقاش، يوم السبت القادم موعداً لاستلام المحاضرة مكتوبة بخط اليد.
يا لغرابتهم، لا يتركون أحداً في حاله، ولا ينسون أحداً يعيش في دنياهم، قال القطان الذي جاء تعليقهُ عامل تشجيع لتقديم المزيد في هذا الشأن المحير، فقلت إن اللهجة الحازمة للمدعو حاتم، أثارت في داخلي القلق، فحاولت التملص ولو جزئياً، وذلك بإبعاد الوقت لأسبوع، قلت سأكتب خلاله تفاصيل تلائم منزلة الرئيس، لكن العرض لم يتغير، السبت موعداً أخيراً قال حاتم، وأكد انهما سيحضران بنفسيهما لاستلام المكتوب يوم السبت، وسيكون الحضور الى مدرسة الاعداد الحزبي يوم الاحد، الساعة الثامنة.
عند هذا ولكي يشعرني بجديته قال:
- أنت تعرف المدرسة في شارع الزيتون من الحارثية. ما أقوله أمر، والأمر ينفذ ولا يناقش، ألم يكن هذا ما علمنا به الحزب.
وعند قولي نعم، تركا المكتب دون أن يودعا بالكلام المألوف سلاماً يلقيانه على من يودعون. تأوهت مع نفسي، وكنت وعلى الرغم من أني سعيد بعدم حلول الفصل الأخير من المسرحية ذات الصلة بأبو غريب، بقيت في الوقت ذاته تعيساً في عودتي الى دائرة الحزب والالتقاء برفاق قدامى، لا أريد مشاهدة أحد منهم. ومع هذا فأول عمل قمت به بعد خروجهما، وأخذ نفس عميق خال من الخوف، هو مناداة كاظم، وملاطفته بكلام لم يفهمه عن عدم اكتمال الفصل الاخير من المسرحية. طالبته بإعادة الثمانين ديناراً مع ابتسامة توحي، وكأني أمتلك الحياة من جديد. أظنه فهم القصد، فكاظم شخص ذكي.
من تعتقد له ضلع بجرك الى ساحة الحزب ثانية؟. سأل القطان.
- أجزم أن الطلب جاء من صدام شخصياً، وإنه عارف تماماً ظروفنا، وكم المعاناة النفسية في داخلنا، وميلنا الى مدحه تجنباً لأذاه. أراد المغالاة في مدحه أمام الحزبيين، متأكداً أنه سيجدها عندنا نحن المدجنين خريجو أبي غريب، وأجزم أيضا أنه لن ينسانا ولم يترك سبيلنا، سيعيدنا يوماً الى السجن أو الى القبر مهما تجنبنا او مدحنا، فالنهاية على يده موت، وعلى وفق ما يأتي متماشياً مع فصل للمسرحية سيكون الاخير. وأكملت القول:
- تلك كانت حادثة ضاعفت من عزمي على الهروب.
هنا قاطع القطان ليسأل عن أجواء المحاضرة؟. فأجبت:
- كان الدخول الى غرفة مدير المدرسة قبل ربع ساعة من الوقت، دخلتها أمسكُ بيدي نسخة من المحاضرة التي كتبتها، وسلمتها يوم السبت كما هو محدد. كان هناك آخرون يجلسون قبلي في الغرفة ذاتها، بينهم طارق عزيز وشبلي العيسمي وآخرون. ألقيت السلام، وردوا من جانبهم السلام كما يجب. سألاني كلاهما عن أحوالي في الوظيفة فحمدت الله على ملاءمتها لي، وعندما حان الوقت قدمني المدير الى الموجودين، وغالبيتهم من أعضاء الفرق المطلوب ترحيلهم الى مستوى أعضاء شُعَبْ، بصفتي عضو قديم في الحزب، رافق الرئيس لفترة حرجة من تاريخ الحزب، سُجن معه في السجن رقم واحد بعد عام ١٩٦٤.
توقفت عن الكلام قليلاً لسبب أجهله ثم عاودته قائلاً:
- بعد اكمال التقديم، ألقيت المحاضرة بتروٍ، وإعلاء مغالى فيه لشأن الرئيس. لقد جعلته الباني الوحيد للحزب في تلك الفترة التي مهدت للتغيير عام ١٩٦٨، وضعته في خانة التعظيم عارفاً بأنه سيَطّلعُ على المكتوب في المحاضرة، وسيقرر مصيري بضوئها.
لقد شعرت بالراحة في عرضي هذا، واسترسلت بالكلام قائلاً:
- أتعلم؟، أني وبعد إلقاء المحاضرة بهذه الطريقة الرخيصة، أحسست أني مشطور نصفين، كليهما في داخلي، يدعيان الحق في القول والفعل... احساس منفر، والأكثر نفرة خروجي من القاعة مرتاب، لم أعد قادراً على تحمل ذاتي، كأني لم أر الاطمئنان في عيون الحاضرين. جيلٌ أظنه جاء متحمساً لشغل كراسي الصف الأول. انشغلت طوال الطريق عائداً الى الدائرة، بكيفية المحافظة على نفسي بعيداً عن الحشر المحتمل، في مسرحية لا يريد الرئيس إنهاء فصولها، فاتجهت فور وصولي الى ضابط أمن المؤسسة أبو شعيب، في نية حماية نفسي، طلبت منه مراقبتي أمنياً. تسجيل كل تحركي داخل المؤسسة وخارجها، لتفادي أخطاء الانسان في تفسير الحوادث والنوايا العابرة. الانسان المسؤول في الدولة عن تفسير الكلام، وزلات اللسان. أعطيت مثالاً بقصد الايضاح، يتعلق بافتراض إجراء اتصال هاتفي مع صديق فيه موعد لقاء عادي، قد يفسر على وفق سوء الظن وافتراض النوايا لقاء سياسي، وغيره الكثير. ختمت كلامي بالقول:
- أخي أبو شعيب، لتلافي مثل هكذا تفسير، واحتمالات التأويل، أرجو تسجيل كل اتصالاتي الهاتفية.
كيف تفعل هذا، فضباط الأمن أشخاص غير مؤتمنين؟. سأل القطان، فجاءت إجابتي، حدث هذا من فرط الخوف، ثم تبين فيما بعد أن أبو شعيب شخص يختلف تماماً عن باقي ضباط الأمن المنتشرين في كل مؤسسات الدولة ودوائرها، لأنه وبعد اتمام كلامي، ضحك دون أن يسخر من طلبي. نهض من مكانه متجهاً الى باب غرفته المملوءة بصور له مع الرئيس، يكرمه فيها رفيقاً متميزاً، أغلقها وطلب إجراء مكالمة مع الموظفة نجوى في قسم الادارة، التي تُجيب عادة على الهاتف الموجود في المكتب، وقال اطلب منها الاتصال بزوجتك، وابلاغها بأي شيء تريد.
قلت:
- لم أفهم.
رد وما زالت الابتسامة تغطي وجهه الأسمر، أقول اتصل بنجوى وستفهم كل شيء، وان كان سراً من غير المسموح معرفته.
اتصلت كما اراد، وطلبتُ من نجوى ابلاغ أُم شيماء بقائي في الدائرة الى ما بعد انتهاء الدوام، وضرورة عدم انتظاري على الغداء.
عندها عاد وأخذ مكانه خلف مكتبه الذي تكثر الادراج على جانبيه، تنفس بعمق، نفث دخان سيجارته الكنت حتى امتلأت الغرفة بسخام العتمة.
فتح الدرج الأول، أدار جهاز تسجيل مخفي في ثناياه، وإذا بالمكالمة التي اجريتها مع نجوى ومكالمتها مع البيت تظهر بنقاوة صوت، وكأنها سجلت اسطوانة ممغنطة على يد خبير تسجيل متمرس.
دهشتُ في وقتها، وعلق هو على دهشتي قائلاً، إن تقارير المراقبة والتسجيلات قد بدأت منذ اليوم الاول لوجودك في المؤسسة، وأردف في القول:
- أبو شيماء أنا شخصياً أكن لك كل الاحترام، وأعرف الكثير من تفاصيل اتهامك، بيني وبينك أنا لست مقتنعاً بما حصل، لكن وكما تعلم ليس في اليد حيلة، وأود اعلامك أني سُئِلت شخصياً لتفسير بعض العبارات التي ترد في مكالماتك ولأكثر من مرة، وقد فسرتها من عندي بعيداً عن التأويل، نصيحتي لك أخ ورفيق أن توقف القلق وتستمر بالحذر، ولا تأمن أحداً، هناك الكثير لا أستطيع البوح به.
قمت من مكاني وقتها، قبلته مودعاً، شددت على يده بقوة، همستُ في أذنه بالقول أن العراق ما زال بخير. ومع هذا فقد خرجت من مكتبه أكثر حيرة من تلك التي تملكتني عندما طلب مني الاتصال بالموظفة، إذ أني أعرف بخبرتي البسيطة حتمية المراقبة، واحتمالات التسجيل لكن المفاجئة المذهلة في موقفه الودي على العكس من طبيعة عمله ضابطاً للأمن، ومسؤولاً لفرقة المؤسسة الحزبية.
عدت الى مكتبي كمن انفتح قلبه لمتع المصادفات، وتبدد من نفسه القلق، لكن فكرة الهروب زادت أسهمها كثيراً.
- هذه يا سيدي واحدة من آلاف المعاناة، أوصلتني الى هذا المكان.
أنت أبو شيماء رجل كريم، والرجال يتعرضون الى كثير من المصائب، وهذا يومك، وأنا هنا قريب منك أخا لك، قالها القطان، وسأل عن أي حاجة أطلب، ثم رجى الذهاب معه الى البيت. فقلت له أن الالتزام بالضيافة التي قررها السيد قاسم في بيت مازن واجبه، والعائلة قد اتجهت الى هناك، والتعب قد حلَّ، ولابد والحالة هذه الالتحاق بهم، لأخذ قسط من النوم بعد يوم كان طويل ومليء بالضغوط، فودعنا بعضنا على أمل اللقاء في الغد، لتدارس الخطة القادمة باتجاه تحقيق حلم الهروب، لكني وعند دخولي الفراش عاودني الاكتئاب، وتوقفت عن النوم حتى آذان الفجر.
للراغبين الأطلاع على الجزء الثامن:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/66986-2025-03-20-11-12-31.html
789 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع