تيه الجنوب / الجزء الثامن - الجاسوس
كان القلب الموجوع في الأصل قد أتعبه المرور الطويل لسرديات عذاب لا نهاية له، وفوق هذا استنزف المتبقي من الطاقة النفسية في الداخل الواهن، وقربَ الحالة من حدود الاغماء. سكتُ قليلاً، أخذت جرعة هواء لأفتح عمداً ضيق التنفس الذي أحسه مفاجئاً، لمتُ نفسي للمرة الثالثة على فكرة الهروب التي أوقعتني والعائلة في خطر لم يكن في الحسبان، وكأن اللوم هو السلاح الباقي لحماية ذاتي من الانهيار. فوق هذا اللوم الذي اقترب من ان يكون سوط جلاد أطرش، بدأ التفكير بالعتب والشك بالحالة النفسية وسؤالها، لم كل هذا؟. وجوابي عن هذا السؤال وغيره، أن فقدان العدالة بين الناس، والانحياز الى بعضهم، وتعريض المجتمع الى التفريق، والحروب والسجن وخيانة الرفقة، والظلم الذي تعرض له الجميع بينهم المنتفضين هي أهم الأسباب، بل كل الأسباب.
سؤال نكش في العقل الباطن محتويات خلايا تقع جانباً، دفع الذاكرة لأن تنتفض كبوم بليل، استدعى بعض الأفكار التي باتت تتوالى، وما طفا منها على السطح في هذا الموقف، يتعلق بالتخطيط الى الهروب في اليوم الأول لاستلام وظيفتي الجديدة مسؤول عن التعبئة في المؤسسة العامة للكهرباء، والسعي من جانبي لإضافة مهام الى مهامها المثبتة في الملاك، تتعلق بالحماية السلبية لمحطات الكهرباء، إزاء الطيران الإيراني الذي نشط بعد السنة الرابعة من الحرب. لقد أخَذَتْ فكرة هذه المهمة وقتاً لشرحها الى المسؤولين في مؤسسة الكهرباء، اذ لم يفهم معظمهم معنى الحماية السلبية. إنها مهمة أردتها مناسبة لتغطية تحركات لي تقتضي القيام بالاستطلاع والتنقل بين المحطات المنتشرة في العراق، لفتح مجالات مناسبة لتنفيذ فكرة الهروب عملياً. في مجالها ذهبت الذاكرة القلقة الى عكاشات منجم الفوسفات، مجالاً كنت أتصوره الاكثر مناسبة لتنفيذ عملية الهروب لقرب موقعه الماثل بين القائم والرطبة من الحدود السورية، ومحطة كهربائه الخاصة، ومشروع حمايتها من الطيران المذكور الذي بات يشن غارات استراتيجية من الاراضي السورية. حجة ملائمة، اكتسب مقترح زيارتها ميدانياً الموافقة على الفور، مع تقدير عالٍ للجهود الوطنية في دعم المعركة والقائد الأوحد.
خمسة أيام هي الاقامة في عكاشات، جاءت بعد ستة أشهر من التحاقٍ بالوظيفة الجديدة في هذه المؤسسة العامة للكهرباء، تم التركيز خلالها لإتمام فعل الاستطلاع المُفَصَل الى جميع طرقها والنياسم، وحساب المسافة والاتجاه، لكل العلامات الفارقة فيها كأني أعمل مساحاً لحدود وهمية، وخلالها حددت نوع القطعات العسكرية المرابطة في محيطها، وشكل المراباة واسلوب الدوريات، كأني قائد عسكري يستطلع من أجل الاعداد لهجوم واسع. كانت حسابات المسافة، ونتائج الاستطلاع قد رجحت القناعة، بإمكانية النجاح في تحقيق فكرة الهروب من هذا المسلك. قناعة أبطلها في ذاك الوقت، تنويه عرضي لآمر لواء الحدود العميد حميد حسون المسؤول في المنطقة، عن ارجاع السلطات السورية شخصين من أهالي بغداد تسللوا اليها من نفس المنطقة. على هذا كان القرار بعدم صلاحيتها لتحقيق حلم الهروب، والتوجه هذه المرة صوب الجنوب، وادراج محطة كهرباء الهارثة في خطط الحماية، مجالاً لتنفيذ خطة الهروب، والحاجة الى المكوث في المنطقة وهي في ظروف حرب لم تبق ثغرة صالحة للهروب، الا بالتنسيق مع أحد الآمرين الثقات، ومع هذا برز في الحال سؤال لا يمكن تجاوزه، يتعلق بصعوبة الثقة، وقد سرى اللسع غدراً من أقرب الرفاق في السلوك العام، كالنار في الهشيم: شك بمن يأتي ومن هو موجود.
كتابة تقرير عن القاصي والداني وعمن يمر قريباً أو بعيداً عن الحدود.
سلوك ساد وأنتشر، ليس بين الحزبيين فقط، بل وشمل الغالبية من الآباء والأبناء وكل العباد.
تعالى الهتاف داخل الحسينية، وارتفع صوت الاشادة بالثوار الذين ألقوا القبض على الجاسوس، وسرعان ما حوّل الانفعال المتصاعد تلك التهمة في عقول الجمهور من مساعد الى جاسوس. ودفع الأفكار في عقلي لأن تتزاحم٬ فذهبت مخارجها هذه المرة الى الحرب العراقية الايرانية، التي توقفت بتعادل خسائرها، وتغير المواقف، وتبدل الاهتمامات، وبقاء التخطيط للهروب قائماً، حيث الالتقاء بكاكة حمه، الصديق الكردي في أربيل، ذاك الذي توثقت العلاقة معه أيام المسؤولية الحزبية عن المنطقة، والتنويه له بالرغبة الجادة للهروب والعائلة الى ايران، عن طريق الشمال الكردي، وإتيان الرد سريعاً من أن المغامرة بوجود العائلة مجازفة غير مضمونة، كون الوثوق بالمهربين في المنطقة صعب، لأن بعضهم يعمل وكيلاً للمخابرات، وآخرين للأحزاب الكردية، وبعضهم الآخر وكلاء مزدوجين، مستعدين إفشاء الأسرار بقليل من الدنانير، وأحياناً تبرع لمجرد تأكيد الموالاة.
بعد تأكيد كاكة حمه هذا، أصبح الجنوب هو الحل المحتمل، وأصبح العمل على معاودة استطلاع محطة الهارثة، والأخريات الموجودة في الجنوب لازما بمصاحبة العائلة للتغطية، وعلى هذا بدأ المشوار من البصرة التي تتمتع بجو جميل في شتاء دافئ نسبياً.
ان البصرة التي سميت في عصر ازدهارها، ستينات القرن الماضي عروس الخليج، أضحت أثناء وبعد حرب الثمان سنوات مع إيران، مجرد حطام، هرستها الحرب، وأتلفها الإهمال، وأماتت القنابل نخيلها، وقضمت مخادع الجنود، وملاجئهم جذورها البريئة، وزحفت الى مائها ملوحة البحر، فهجرها الزوج في ليلة زفافها، وهجرتها أسماك البني والشبوط في الليلة التي تساقطت فوق مائها القنابل.
كان المقصد هذه البصرة بكل ما أصابها من علل، وكان الانتظار في فندق حمدان على أمل العودة من جولة استطلاع قد تُسَهِل التنفيذ الذي بات وشيكاً، بالتأسيس على التغير الحاصل في انفتاح القطعات على طول خط الحدود مع ايران، نتيجته تأكيد على وجود العديد من الثغرات التي يمكن النفاذ منها بمستوى نجاح مقبول، باستثناء عقبة وحيدة هي حقول الالغام التي تنتشر في الجانب الايراني من دون تأشير، دفعتني الى تأجيل التنفيذ وحسم قرار العودة مع العائلة الى بغداد، بانتظار فرصة ستأتي حتماً مادامت الفكرة قائمة، وخزين الذاكرة من عذابات السياط الاتية من چاسب وياسين لم تنضب بعد.
........
جاء صوت عَلا باقي الاصوات يلعن الحكومة، وحسين كامل ومساعده الجاسوس، تقدم خطوة، تعمّدَ افتعال موقف ليصفعني عقاباً على فعل افترض أني ارتكبته لمساعدة الظلم، وتنكيلاً بحسين كامل، لكن أسئلة أخرى وجهها السيد قاسم عند عدم اقتناعه بالعرض الفائت عن أبو غريب، أوقفتْ ذاك المستمر في اللعن، المتحمس الى توجيه الصفعة من قريب، حيث الاتجاه السائد في الحسينية الاستماع الى مزيد من القصص عن أبو غريب، لا يريد السيد افساد نشوة الاستماع الى وقائع تعري النظام. فلم يعد هناك من فائدة سوى التأكيد على مساعي الهروب الى المجهول من نظام كنت منه، وأصبحت ضده، وسجنت بسببه فقلت:
- نيتي أيها السادة، التوجه صوب الحدود عن طريق جيوش الحلفاء التي تمسك بتلابيب الحدود، عسى جنودها المتناثرين على رمال صحارينا الواسعة أن يساعدوني في تخطي عتبة المجهول، واذا ما سمحتم لي الان، وانا في هذه الحالة من التعب، سأتجه اليهم تحت أنظاركم، لا أفرق بين أمريكي أو بريطاني أم غيرهم، فوجعي أقوى من الاختيار بين هذا وذاك، وظني أنهم الأرحم عليّ وعلى عائلتي من أبناء وطني وحزبي.
عم الصمت أرجاء الحسينية المكتظة بأصوات تهتف بالموت، قاومت الخوف بضراوة أكبر، ومع هذا شعرت أن الجدران من حولي تضيّق عليَّ الخناق. أشر البعض نحوي قائلين، الموت لهؤلاء المندسين، الذين يحاولون اختراق الجدران القائمة للثوار المنتفضين... موت يراد له أن يتم سريعاً، هنا والآن بعد أن تجمعت مشاعر العداء في نفوس الموجودين داخل الحسينية حزمة واحدة، قادرة على اختراق الحياة، حتى باتت الاسئلة الموجهة من كبيرهم، والجالسين جنبه دفعاً باتجاه الموت، وباتت الهتافات الواردة من الجهات الأربع، أمراً واقعاً ينبئ بحصوله المحتوم، حكماً لمن يشك بعلاقته الوثيقة برجالات النظام الذين أذاقوا الجميع ويلات التطبيق القسري للمبادئ. تهمة خرجت في الأصل من بين شفاه السيد مازن، الشاب الكاره للمبادئ والنظام، الذي أُختطفَ والده في وضح النهار، وأخفاه في أحد المقابر الجماعية بإشارة من الرئيس. هكذا كان الرئيس عندما يضع عينه على شخص تصبح الحياة وهماً. كانت التهمة الموجهة لي كأنها ثابتة أو تبدو هكذا، ولدت وانتشرت ناراً أوقدها عود ثقاب بكومة قش يابس، وسط انفعال جاف وتراشق رصاص، وتضخمت في عقول القريبين وباقي المنتفضين الذي يفتشون عن انتصارات على بغداد، منبع الظلم المتجه منها الى عموم أنحاء العراق، وترسخت في عقل الباقي من الجمهور الغاضب من الحكومة عندما كبّرَ مازن معلناً القاء القبض على هذا الخبير المساعد لحسين كامل.
تهمةٌ سارت معي ملاصقة لظلي، حتى هذه اللحظة التي أقف فيها مأسوراً، تعلو وجهي الشاحب صفرة مزرقة، كأن القلب يشكو عجزاً عن دفع ما يكفي من الدم الى عضلاته المتهدلة. زاده اصفراراً لاحظته على أكف يديّ تكرار اللوم الموجه الى ذاتي المضطربة، عن قراري الهروب في غير الزمان ولا المكان المناسبين.
في هذا الظرف الخاص انتشرت الاشاعات الخاصة، بأسر الجاسوس الاقرب للوزير، أضاف لها البعض تهم بالمسؤولية الجنائية عن أنتاج الأسلحة الكيمياوية، ووضع خطط التصنيع لامتلاك أسلحة تقتل العراقيين وهم نيام. بسببها ولمزيد من الاستنفار بالضد من بغداد أصبح التوافد جماعات من المناطق القريبة الى الحسينية لمشاهدة الجاسوس الاسير، وربما الفوز بفرصة المشاركة في رجمه انتقاما من النظام.
مرت جماعات، ومر أفراد متفرقون قريباً من العائلة المركونة في سيارة الفولفو دون اعارتها أي اهتمام، مما أثار قلق أفرادها ونهش جهازهم العصبي، خاصة بعد تأخري محجوراً داخل الحسينية دون علمهم أن الحَجُر جلسة محاكمة ميدانية، ودون معرفة لنجلاء وغادة، المستمرتان في الالحاح على الخروج من السيارة بغية اللعب خارجها غير مكترثات لما يحصل بعد أعياء أصابهما من الحبس داخلها، والرغبة في استكشاف هذه الطبيعة الجديدة قريباً من المكان.
مازالت أصوات الثوار تصدع، والهتاف ضد الوزير ومساعده يرتفع، حتى وصلت بعض عباراته الى القابعين غصباً في السيارة فزادت من خوفهم حد التجمد في المكان.
حاولت أُم شيماء مغادرة السيارة والتوجه الى الحسينية بغية تخفيف القلق الذي كاد يأكل عقلها الهالك من الانتظار، لكنها ألغت الفكرة عند تذكرها إصراري على بقائهم في السيارة، وعدم مغادرتها لأي سبب كان.
.......
ازدادت الجماعات الاتية الى الحسينية، المقر الأعلى للمنتفضين بالمنطقة.
تصاعد في أرجائها الهتاف مع دخول كردوس لعشيرة آل عويّد، وزادت في الوقت ذاته الخشية من إضافة أصوات جديدة تطالب بالقصاص.
وفي لجة اللوم وقلق اللحظات العابرة، ظهرت على الذاكرة صورة الزنزانة ورطوبة المكان وعفنه، والرضوخ خوفاً من نوبات التدجين القهري، ومن كل شيء، وظهرت معها آلام الحفر بالأظافر على جدرانها الصماء وعبارات التمني للتخلص من تلك الآلام، وإزاحة ارهاصاتها داخل خطوط النسيان، وكأن أصحابها يريدون القول خلسةً، لقد كنا هنا، ورحلنا من هنا الى عالم النسيان. هذه وغيرها جَسّدها خيال الماضي واقع في الحاضر بوضوح، فقفزت الى الوعي عبارة "أن هؤلاء الثوار الغاضبين ومهما فعلوا أرحم من أولئك السجانين التعساء، وان الوضع الحالي ومهما بلغت مخاطره لا يصل الى ذاك الوضع الذي يموت فيه الانسان في كل لحظة ميتة حيوان". فأسهمت بالتهدئة بعض الشيء، والانغماس بالتفكير عن كيفية الخروج من هذا المأزق، وعندما ارتفعت اليد اليمنى دون سيطرة من العقل لحك أعلى الرأس بغية التفتيش عن الحل، لامست آثار جرح تركته ضربة قضيب حديد من ذاك المكنى أبو حديدة، فتحت في وقتها جرحاً لم يلتئم في أسبوع.
لم يهدأ الجمهور الهاتف، ولم يهدأ العقل الفاعل، ولا أولئك الواقفون في الزاوية، يريدون اكتشاف المزيد من بؤس السجون ليقنعون أنفسهم بجدوى الانحياز الى الثورة، التي أخذت تتسع في ربوع المدينة والريف، فجاء صوت من بينهم كان جهورياً وخشناً، لرجل خشن طويل القامة يصلح أن يكون قائداً لكتيبة فرسان:
- دعوا الأسير يخبرنا ما كان يجري في السجن، علنّا نعرف حقيقته.
وعلى الفور قال آخر وما الفائدة من كلمات يؤلفها جاسوس.
وقال ثالث دعونا نخلص من هذا الشيطان، لنتفرغ الى قتال أصحابه، واستمر القول هكذا شاملاً، ولو أتيحت الفرصة لي وأنا في هذا المأزق من عد الاقاويل لجاء العدد مساوياً للواقفين، لكن صاحب الصوت الجهوري عاود الطلب، لأن يسمع ما كان يجري في السجن، فسكت الجميع.
كان السجن عذاب، والقاطع الخاص في سجن أبو غريب فرع من جهنم، بل هو جهنم، هكذا بدأت قولي، استجابة لطلب صاحب الصوت الجهوري مع المزيد من الإضافات، الأهم ما فيها تركيز على أن القائمين عليه شياطين، يتفننون في التعذيب، يجعلون النزيل مسخ حيوان، يقتات أحيانا على فتات نفاياتهم، وأحيانا أخرى على بقايا هراواتهم التي تتشظى على جسده الهزيل.
أرتفع صوت الرجل الطويل عاليا، وقال:
- كيف؟. وَضِحْ لنا الصورة أكثر لكي نفهم. بعض الكلمات التي تنطق بها أيها الجاسوس تجعلنا ندور في ساحة الوهم، كأننا بعيدون عن وطننا، وعن اللغة التي نتكلم بها.
توقفت قليلاً لأجلب الانتباه، وقلت:
- لي مع هذا الشأن حكاية. قال:
- وما هي الحكاية؟. قلت:
- لقد انفصل رأس الهراوة "التوثية" كما نسميها نحن أهل الريف، من ضربة جاءت على كتفي الأيسر "جاء قولي هذا رغبة مني في تعبير رسالة للجمع من أن المتكلم هو واحد من أهل الريف أي واحد منهم عساه ينفع في استجلاب التعاطف في هذا الموقف الصعب" فتلقفتها يديَّ غنيمة كمن وجد كنزاً، أخفيتها تحت ملابسي الداخلية، وعدت بها الى الزنزانة، لأسد بها بعض من الجوع عندما كان البرنامج يقتضي ان تكون وجبة الطعام عشر فردات تمر من الزهدي، وجرعة ماء لمرة واحدة في اليوم، كان اخفاؤها كرة خشبية ممتعة، وطعم أجزائها أثناء المضغ يفوق التلذذ به لحمة الفخذ التي كانت تعد مائدة للغداء أيام الشباب، بل أطعم من رز العنبر لسوق الشيوخ، ممتعة حقاً عندما يقضم منها جزء بسيط لسد خواء معدة لا يوصف. كذلك أشعرتني في حينه بمتعة الاختلاف عن الأصحاب الجياع ليومين متتاليين، من فرطها باتت الخشية ملموسة في ان يشاركني أحد من الزملاء التهام جزء منها جوعاً، لكني وبعد تلقي العقاب من چاسب، وقوفاً خارج الزنزانة ليلة كاملة وعشر جلدات، كرهت فعلتها، وشككت بعقلي من أنه قد جن، اذ وبعد أن عدت الى الزنزانة تصورت الضوء في الأعلى شيطاناً برقبة طويلة، يريد الانقضاض علي ليلتهمني، لمنافستي اياه على وجبة طعام من خشب.
رفعت من وتيرة صوتي درجة، فقلت بغضب مسموع:
- آه من ذاك الجوع الذي فاقت آلامه سهام الانانية. ثم أرجعت نفسي الى حالها الهادئ، خاطبتها وأضفت، وآه لهذا الانتقال من موقف مؤلم الى آخر أكثر ايلاماً، يريد فيه الجمهور الراغب بالانتقام من ضحيته المزيد. عندها أيقنت بعدم جدوى السكوت وضرورة الاستجابة السريعة لما يريد الجمهور، فتراصفت الصور على حافات الخلايا الخاصة بالاسترجاع في العقل المشتت، فكانت صور الزملاء الذين قضوا في السجن، مثل شريط سينمائي أتلفه التخزين السيء، وَعرض قصص موتهم هنا سبيلاً لتخفيف الوجع على الذات المتورمة في هذه اللحظات التي لا تخلو من الخوف، وتمهيداً لتقبل الحكم الذي سيصدره الثوار موتاً في القريب.
سكتّ قليلاً كطرفة عين، وقلت لنفسي لم الخوف؟، ومازالت في مخيلتي تلك الفكرة التي طالما رددتها مع حبيبتي من أن الزمن الذي يأتي بعد أبو غريب، زمنٌ مضاف إلى العمر الذي انتهى نفسياً في أقبية الموت داخل أسواره المنيعة.
لقد أنتهي العرض الخاص بقصص الموت بسؤال وجهه السيد الكبير في هذه الحسينية العامرة عن الغاية من المجيء الى سوق الشيوخ، وطبيعة المهمة التي كلفتُ بها من حسين كامل؟. وقبل أن يحصل على الاجابة، تبعها بسيل أسئلة أخرى غايتها التمهيد لقرار الاماتة من دون اكتراث لحكايات السجن وملابساته.
...........
ملأتني الحيرة، وضاق من حولي المكان كأني محشور في جب. لم يبق لي من بد لتبديدها أو التخفيف منها سوى الإجابة بما ينسجم وحاجة الموقف الحائر، فكانت بعض كلمات اخترتها بدقة كما هي دقة النجم الطارق، لتكون مقدمة عن معارضتي الحكم بدليل السجن الذي ذكرت تفاصيله قبل قليل. رتبتها هذه المرة على مهل. استنفرت كل الخبرات التي أخذت لها مكانا في ذاكرة الماضي، وشغلت كل الحواس التي تعين في إدراك الحاضر والماضي، باعتقاد مقبول من أنها تفي بغرض الاعفاء من عقوبة الموت التي أصبحت في عداد المحتوم، وقد بدأت قائلاً، أني مثلكم معارض لهذا النظام، سعيت من وسطه لأن.... ثم سكتُ، عندما نهض السيد من مكانه واقفاً لذاك القادم الخمسيني بملابسه العربية الجنوبية النظيفة. بندقيته روسية يضعها على الكتف كأنه مقاتل من الأهوار، ويتمنطق بمسدس في جعبته كأنه قائد لفصيلة ثوار. عباءته والكوفية والعقال أعطت انطباعاً أنه شيخ من شيوخ المنطقة وثائر، بل قائد لمجموعة ثوار. زادته المشية السريعة والالتفاتة الفاحصة مع السلام على صفوف المصطفين مهابة ورفعة، والشخصان اللذان يسيران خلفه يؤشران دون شك أنه من كبار القوم جاهاً ومنزلةً، وذا تأثير على عموم الموجودين في الحسينية في اعتيادهم الترحيب به من علية القوم.
نهض الجميع لقدومه، اقترب من السيد قاسم، هم بالجلوس الى جانبه، التفتَ صوبي كأسير، سأل عن المكان والزمان الذي أسرتُ فيه. ركز بنظره الى الوجه وأعاد التركيز، كأنه مألوف. ألغى فكرة الجلوس، وبدلاً منها توجه صوبي، منادياً بصوت ملأت تردداته العالية كل المكان:
- من أبو شيماء؟.
- نعم، وقد أكسب السكون مخارج الكلام دفعة من التعاطف.
أقترب الرجل، رحب بيَّ ضيفاً أخذه بالأحضان، فأمتلأ المكان همساً فيه قدر من الاستغراب والتعجب. صاح بأعلى صوته:
- انك الآن بين أهلك وفي ديرتك.
سأل عن الذي حصل، وكيفية الوصول الى هذا المكان الذي يحيط به الموت من كل جانب؟. فأجبت بعد أن تجاوزت تلك المقدمة التي أعددتها على مهل، فالموقف قد تبدل، وهي الآن لا تنفع، فقلت بحشرجة في صوتي:
- أردت الهروب من هذه البلاد التي آلمتني حد الموت في ذاك السجن المشؤوم، وتؤلمني الآن في هذا المكان الذي أحسسته سجناً في هذه الحال.
وقف السيد قاسم جانباً بوضع فيه كثير من الارتباك، لا يفهم ما يحصل، ولا يدري كيف يمكنه مداراة الموقف الغريب، بعد أن تبين له أن الشخص الذي أتهمه تواً بما يفضي الى الموت يؤخذ بالأحضان. لعن الشيطان، ذم الاستعجال، عتب على مازن والشباب، حاول التخفيف من وقع الحادثة من خلال المغالاة بالترحيب، والسعي لإعطاء النفس متسعاً من الوقت يكفي خروجها من دائرة الاحراج.
أعاد الرجل القادم ترحابه ثانية، تأكد بفراسته الريفية أني لم أميز شخصه، فبادر التعريف بنفسه، الشيخ منعم القطان، العقيد منعم، ثم التفت الى الحضور الذي ملأ المكان، ليُعرف قائلاً:
- إنه اللواء أبو شيماء معارض للرئيس الذي سجنه ظلماً وبهتاناً، هو من أشراف القوم ومن كبار الضباط الوطنيين المعادين للنظام.
ومع هذا ولحد هذه اللحظة، لم يسعفني العقل المرتبك أن أعرفه، فتأسفت له كوني لم أعرفه.
لكني أعرفك، أنت أشهر من نار على علم قال القطان، ثم التفت الى الموجودين ثانية أكد هذه المرة إن الواقف أمامهم هو اللواء الركن شامل حسين، فازداد الهمس وضوحاً، وعلت الابتسامات تلك الشفاه الذابلة تخلصاً من ذنب أقترب من الارتكاب حكماً بالموت.
وقف القائد مرحباً معترفاً بأهمية الضيف، اتجه لإعادة حساباته، أعتذر خجلاً، وأنا حمدت الله على حضور القطان قبل فوات الأوان، وبهذا الحضور المفاجئ وَثقتُ من أني محظوظ، ومن أن الفرصة لتحقيق الحلم مازالت قائمة.
***
يتبع
للراغبين الأطلاع على الجزء السابع:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/66483-2025-02-03-08-22-17.html
704 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع