مدير الكهرباء الوطنية في عهد عبد السلام عارف
كُلّف المرحوم المهندس اللواء جهاد احمد فخري بمهام المدير العام للكهرباء الوطنية باليوم الثاني من ثورة 14 رمضان..
فمن هو جهاد احمد فخري؟ ،وكيف وصل الى هذا المنصب؟
ولد جهاد احمد فخري عام 1920 تدرج بالدراسة حتى اتم الاعدادية ثم دخل الكلية العسكرية وكان من الاربعة الاوائل المتفوقين فيها لذا قررت الكلية العسكرية ارساله مع زملائه الثلاثة ببعثة الى بريطانيا لاكمال الدراسة فيها. مكث جهاد ببريطانيا اربع اعوام إذ حاز على شهادة الهندسة الميكانيكية، ثم عاد الى العراق ليتولى مهامه ضمن قطعات الجيش العراقي.
كان مثال الظابط الوطني الملتزم الذي قدم وطنه على كل شيء حتى وان كان ذلك على حساب راحته وراحة افراد عائلته. وهو القائل دائماً، (حب الوطن عبادة).
تدرج بالرتب العسكرية حتى اصبح آمراً للهندسة الآلية الكهربائية وبقي فيها فترة طويلة من الزمن.
وفي عام 1958 عندما قامت ثورة 14 تموز وجاء المرحوم الزعيم عبد الكريم قاسم الى الحكم قام جهاد بتقديم استقالته من الجيش وطلب ان يحال على التقاعد، لكن الزعيم عبد الكريم قاسم استدعاه الى وزارة الدفاع لمحاولة اقناعه على العدول عن قراره وسحب الاستقالة ، الا ان جهاد قال للزعيم وبشكل صريح، "انا لا استطيع الاستمرار بعملي معكم" ويقصد العمل مع الزعيم نفسه. ولكن وبحكم المعرفة القديمة بينهما وكونهما كانا من دورة واحدة تبسم عبد الكريم قاسم وقبل بنهاية المطاف استقالته من الجيش العراقي.
بعد خروجه على التقاعد بدأ بمزاولة العمل بمكتب هندسي ببغداد بالقرب من ساحة النصر طوال فترة حكم قاسم اي من 1958 وحتى 1963، كان وقتها في اتم السعادة لانه ابتعد عن حياة السياسة علماً انه كان يميل الى القومية العربية (الناصرية) والتي كانت وقتها مخالفة لتوجهات عبد الكريم قاسم.
وعندما قامت ثورة 14 رمضان التي اطاحت بقاسم جلس جهاد بالدار يستمع وبكل اهتمام الى البيانات التي كانت تذاع على المذياع.
وفي اليوم الثاني للثورة سمع احدى البيانات تقول ما يلي، "عين العميد المتقاعد المهندس جهاد احمد فخري مديراً عاماً للكهرباء الوطنية" فضحك وقتها فسألته زوجته رحمها الله عن سبب ضحكه الا انه قال لها وبكل ثقة انه سيرفض هذا التعيين لانه لا يريد العودة الى الحياة السياسية. وبنفس اليوم ذهب الى وزارة الدفاع وقابل المرحوم عبد السلام عارف الرئيس الجديد للعراق والذي كانت تربطه به صداقة حميمة وطلب اعفائه من هذه المهمة لانه لا يرغب العودة الى العمل مع الحكومة الجديدة. الا ان عارف قال له " نحن بحاجة ماسة لكل الرجالات الوطنيين المخلصين بمثل هذا الوقت العصيب ولم اتخيل يوماً انك ستتخلى عن وطنك بهذه السهولة"
كانت لتلك الكلمات وقع كبيراً عند جهاد فوافق رغم مرارة القرار وقبل المنصب على انه تكليف وليس تكريم. وقال لعارف، "لقد قضيت طوال حياتي وانا عسكري، لذا سوف ادير الكهرباء الوطنية بنفس اسلوبي العسكري" فاجابه عارف، "افعل ما شئت، فانا واثق منك ومن قدراتك كل الثقة وانك لن تعمل سوى العمل السوي".
فكر عبد السلام قليلا ثم اضاف،"اما آن الاوان ان تعود للجيش الذي يحتاجك؟". فعاد جهاد للجيش واصبح مديراً عاماً للكهرباء الوطنية وعميداً بالجيش بنفس الوقت، لكنه رفض استلام مرتبين واكتفى بمرتب واحد. لذا قرر استلام الراتب العسكري فقط ورفض الراتب المدني اي راتب المدير العام للكهرباء الوطنية. وعندما سألته زوجته عن سبب رفضه للراتب المدني قال، "لا اريد ان يأتي يوماً ويقول لي احدهم، من اين لك هذا؟"
بعد مضي بضعة ايام من الثورة توجه جهاد الى الكهرباء الوطني وقوبل من قبل موظفي الكهرباء الوطنية بالترحيب. الا انه خطب بهم وقال بانه عسكري اولاً قبل ان يكون مهندساً، لذا فانه سوف لن يتهاون مع من يتقاعس بعمله. وقد شدد كثيراً على احترام الوقت والمواعيد والالتزام باللوائح والتفاني بالعمل وخدمة المواطنين وعدم تأخير مصالحهم.
وباليوم التالي جاء جهاد الى المديرية تمام الساعة السابعة صباحاً اي نصف ساعة قبل ابتداء العمل ووقف امام شباك مكتبه الذي كان يطل مباشرة على المدخل الرئيسي للمديرية وصار يتابع دخول الموظفين واحداً تلو الآخر. وفي تمام الساعة السابعة والنصف اي ساعة ابتداء العمل ضغط زر جهاز الاتصال الداخلي وطلب من الفراش اغلاق باب المديرية وضل يراقب الباب. وبعد عشر دقائق وصل احد الموظفين متأخراً عن العمل فوجد الباب مغلقاً، طرق الباب الا ان الفراش اخبره بالانتظار خارج الباب لحين يؤذن له بالدخول. وبعد بضع دقائق وصل المزيد من الموظفين والموظفات فوقفوا ينتظرون خارج باب المديرية مع زميلهم الأول. وعندما تأكد جهاد من ان النصاب قد اكتمل ولن يأتي المزيد من الموظفين طلب من الفراش فتح الباب وادخال الموظفين والموظفات المتأخرين وارسالهم الى غرفة المدير العام، فوقفوا جميعاً امام المدير العام.
سأل جهاد الموظف الاول، لماذا تأخرت؟ فاجابه بان الحافلة التي تقله قد تعطلت بالطريق. الثانية قالت له بان زوجها مريض فاضطرت ان توصل ابنها للروضة. واخرى قالت بان خادمتها المنزلية طلبت اجازة قصيرة لعمل بعض الاوراق الرسمية. وتوالت الاعذار من الموظفين السبعة الذين وقفوا امام جهاد كي يبرروا تأخيرهم.
بعد ان استمع الى عذر آخر موظف منهم، قال، "لقد قررت معاقبتكم جميعاً وذلك بقطع عشرة ايام من مرتبكم الشهري الحالي"
فارتفعت الاصوات وصار الموظفون يتذمرون ويترجون جهاد كي يعدل عن قراره لكنه هددهم برفع العقوبة الى عشرين يوماً فسكتوا جميعاً وهموا بالخروج الا انه طلب من الرجال فقط بالمغادرة وطلب من النساء البقاء بمكتبه. فبقيت ثلاث موظفات.
نظر اليهن وقال:
لقد اتيتن الى الدائرة بكامل قيافتكن ووضعتن المكياج وارتديتن الكعب العالي، وهذه امور لا اقبل بها هنا ابداً، لذا اطلب منكن الآن الدخول الى الحمام وازالة المكياج وكسر الكعوب العالية باحذيتكن.
لم تتجرأ واحدة منهن على الاعتراض، فقد قمن بما امرهن وخرجن من مكتبه وهن يلعنن اليوم الذي استلم فيه جهاد هذا المنصب. باليوم التالي وكالعادة امر جهاد ان يغلق الفراش الباب كما فعل باليوم السابق، ووقف ينظر من خلال نافذته المطلة على الباب الرئيسي. لكنه لم يشاهد موظفاً واحداً يتأخر عن عمله. كانت تلك تجربة قاسية تعلم الموظفون بها الانضباط الذي يستحقه العمل وبالمقابل فان جهاد حصل على حقد الموظفين عليه لصرامته والتزامه بمواعيد العمل بحذافيره.
بعد بضعة اسابيع من تعيينه لاحظ جهاد ان عملية تصليح مصابيح الشارع كانت تنفذ بطريقة بدائية جداً.إذ كان عاملان من عمال الكهرباء يسيران بالشارع حاملين سلماً خشبياً يضعونه على عامود الكهرباء ويتسلق عليه احدهم كي يغير المصباح المعطوب ويستبدله بمصباح سليم.
لذا وبعد استشارة المهندسين بالمديرية قرر جهاد استيراد مئات السيارات الآلية من المانيا من صنع فولكس واجن والمزودة بسلم يرتفع بشكل آلي الى الاعلى كي يمكن عامل الصيانة من الوصول الى المصباح المعطوب بسهولة وامان ليقوم بتغييره. وقد قام بدراسة ميدانية على شوارع بغداد العاصمة فتوصل الى ان دوريات هذه السيارات الآلية يجب ان تمر من اي شارع من شوارع بغداد خلال 30 دقيقة (في ساعات الظلام طبعاً). واذا مر جهاد بالصدفة ولاحظ مصباحاً معطوباً، فكان يقف بسيارته امام المصباح المعطوب وينظر الى ساعته. فاذا ما مرت اكثر من 30 دقيقة ولم تأتي احدى سيارات الصيانة فانه يتوجه لاقرب هاتف كي يتصل بالمنطقة المسؤولة عن ذلك الشارع وعند التحدث مع عامل البدالة يسأله عن اسماء فريق العمل الذي يقود تلك السيارة المقصرة، وينبئه ان هذا الطاقم سينال عقابه (عشرة ايام قطع راتب). واذا ما تأخر موظف البدالة على الرد على الهاتف فان عامل البدالة بدوره سينال نفس العقاب اي (عشرة ايام قطع راتب). في تلك الفترة شهدت الكهرباء الوطنية نقلة نوعية من حيث الاداء وتحسين الخدمات للمواطنين والازدهار بشكل عام.
بدأت الكهرباء الوطنية تتعافى شيئاً فشيئاً حتى اصبحت واحدة من افضل المؤسسات الحكومية بالعراق. وفي يوم من الايام امر جهاد القسم الهندسي باعداد خارطة العراق من النوع الذي يعلق على الحائط والتي تشبه التقويم (الرزنامة). وعندما سؤل عنها قال انها خارطة العراق وعليها خمسة صفحات بلاستيكية شفافة. تمثل كل صفحة من الصفحات سنة كاملة. فالصفحة الاولى تمثل عام 1963 وعليها خطوط زرقاء متشعبة ترمز الى شبكة خطوط الكهرباء في جميع ربوع العراق. اما الصفحة الثانية فانها ترمز الى المزيد من شبكات الكهرباء ممثلة بخطوط زرقاء متشعبة. وهكذا تتوالى الصفحات حتى تصل الى عام 1968 حيث تصبح الخطوط الزرقاء كشبكة العنكبوت وبذلك لن تبقة قرية واحدة بالعراق من شماله وحتى جنوبه الا وتصلها الطاقة الكهربائية ولمدة 24 ساعة باليوم. وقد قام فعلاً بتنفيذ تلك الخطة وبمواعيدها المحددة لها حتى وقت وفاته عام 1966 حيث توقف العمل بتلك الخطة بشكل نهائي.
صورة تأريخية المرحوم العميد جهاد فخري(الثاني من اليسار) مع المرحوم الرئيس عبدالسلام عارف قبل سقوط طائرتهم بساعة واحدة
شائت الاقداران يكون جهاد احد المرافقين الذين كانوا بصحبة الرئيس عبد السلام عارف وقت سقوط طائرة الرئيس في منطقة القرنة بجنوب العراق فوافته المنية مع زملائه الشهداء ممن كانوا بالطائرة.
فالى رحمة الله على روح أولئك الرجال الابرار، الذين خدموا العراق بكل ما اوتوا من قوة.
بعد وفاته بفترة وجيزة زارت احدى الموظفات السابقات ممن عملن بالكهراباء الوطنية واخبرت عائلته بان جميع من كانوا يلعنون جهاد اثناء حياته لشدته وصرامته صاروا يترحمون عليه ويقولون بان الكهرباء الوطنية اصبحت (هدد) باللهجة العراقية تعني سائبة وبلا نظام.
863 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع