تيه الجنوب / الجزء السابع - الاقتراب من حافة الموت
كانت الحسينية هي الموقع القيادي للمنتفضين، دخلناها جمع من الآسرين والمأسورين، مسك أحدهم رسغي خشية هروبي وكأني صيد ثمين، ومشى آخر خلفي شاهراً سلاحه متهيء لأي طارئ. يُكبران معاً "الله أكبر"، يعلنان القاء القبض على مساعد حسين كامل، فالتف حولهما عشرات من الثوار والمتفرجين، وكذلك الذين ينتظرون في مواقع الوسط لم يحسموا أمرهم بعد، وهم الغالبية من بين الحضور. موقف لا نحسد عليه ولا يمكن أن يحسد عليه أحد، حصل قبل بلوغ الهدف الأول سوق الشيوخ بمئات الأمتار.
يا له من نحس، قلتها مع نفسي وجال فكري مع دقائق الانتظار الأخيرة، أمام العميد مانع في عملية إطلاق السراح، وكيف عالجت قلقي آنذاك، بمعاودة الانشغال بفكرة الهروب، وكيف وضعت قدمي اليمنى على أرضية السيارة الكوستر، يوم أقلتني وباقي الزملاء من السجن الى ديارنا، مستعيناً بكتف سرمد لمصاعب في ثني الساق التي تضررت في أحد غزوات التعذيب.
وقفت أمام السيد قاسم، كبير من في الحسينية وقائد ثوارها كما تبدو هيئته، متسربلاً بثياب التيه بين أربعة جدران: جدار خلاص بالهروب من محنة. وجدار بؤس بالوقوع في ورطة.
جدارُ ماضٍ فيه بقايا أبو غريب وخيانة رفقة. وجدار حاضر فيه وجود أمريكي يكتب على يديه تحقيق الحلم بالهروب، وفيه على اليمين ثوار انتفاضة في طريقهم الى الانقضاض على سلطة الحزب والرئيس، وعلى الشمال أشباح من بقايا الحزب والسلطة تلبست أجساد ثوار تدعي الحكمة.
سألت من كان ماسكاً رسغي ضاغطاً على مفصله، أهذا الذي أنا فيه حقيقة أم مجرد خيال؟. أيمكن أن يحدث فعلاً أم أنه ضرب من ضروب المحال؟. فضغط على المفصل بقوة، دفعني الألم الناتج للتمترس بالصمت، واعادة الذاكرة الى ماض قلبّتُ بعض صفحاته المتهرئة، فظهرت ثانية سيارة الكوستر التي غادرت أسوار السجن المشؤوم، وظهر ركابها الذين جلسوا على كراسيها الجلدية، مبهورين في عالم بغداد الجديد خارج السجن، لقد تغيرت الكثير من ملامحه في هذه السنوات القلائل، لا يجرأ الواحد منهم وأنا كذلك توجيه السؤال الى چاسب الجالس في المقدمة، ولا يجرأ الامعان في الشارع، وحركة الناس ومرور السيارات، تعودنا الصمت وتلقي التوجيهات حتى في النظر الى الأشياء، وتعودنا الخوف من توجيه الأسئلة والاستفسار.
لقد توقف التذكر وتقليب الصفحات فجأة، وتحول الجهد العقلي الى لوم قاسٍ للذات على خطأ ارتكبتهُ في إظهار هوية الخبير، أدى الى الوقوع بأسر ثوار يرون بأفعالهم سبيلاً لنجاح ثورتهم والانتقام من النظام. لم يكن هذا في حساب خطط الهروب التي تمت مراجعتها مرارا.
مع هذا اللوم وعدم الرغبة في فقدان السيطرة على الذات، حضرت فكرة المقارنة في الموقف والتعامل وفي كل شيء، بين هؤلاء الثوار الآسرين في منطقة نفوذهم، وبين الحكومة التي أوقعت رجالها في غياهب السجن دون ذنب، فأيقنتُ أن لهؤلاء الثوار وفي ظروف القتال المعقدة الحق في ان يتشككوا، ولهم الحق في التمسك بالأسرى، لكن ليس للحكومة الحق في أن تقيم الحد على أعوانها لمجرد عدم رضا الرئيس، أو أحد من حاشيته. مقارنة خففت من شدة القلق، ومن درجة اللوم الى الذات المكسورة في اتخاذها قرار الهروب، وبهذه الطريقة التي فيها المجازفة على اعلى المستويات. وبعد التيقن من أن الثوار المنتفضين ومهما فعلوا لا تصل حدود قسوتهم البقاء ساعة تحت رحمة الجلاد في أبو غريب، خف القلق وتكونت حالة من الاستعداد للدفاع أي كانت النتيجة، وقدرة للخروج من التمترس بالصمت.
أنت، قال السيد.
لم أنتبه، فغزني الماسك برسغي بحذاء عتيق، شعرت لحظتها ارتطام قدمي بالأرض، أعاد لي وعيي. قال تقدم خطوة الى الامام.
تقدمت واقفاً مثل صاحب ذنب ملفق في محكمة ميدان ثورية، متلهفاً في أن تبلعني الارض بكامل قواي. رفعت يديَّ عالياً أدعو كي تبلعني. سألني:
- لم ترفعهما؟. قلت: لكي تبلعني، فظن هو والحضور أني جننت.
...............................
استمرَ الهرج سائداً، واستمر الواقفون والجالسون والمتفرجون في أماكنهم ينتظرون النتيجة التي لا تعني البت بوجود الحقيقة من عدمها، بل بشكل القصاص المطلوب اتخاذه. واستمر السيد قاسم يسأل عن الحاج محمد، الشخصية النافذة في سوق الشيوخ، للتباحث في الشأن، واكمال نصاب هيئة التحقيق والمحاكمة، التي قرر اتمامها سريعاً لشخصي، متهماً بصفة المساعد الأيمن لحسين كامل صهر الرئيس ووزير تصنيعه المقرب.
قال أحد القريبين من المنبر أن الحاج ذهب الى البيت ليستريح، فطلب حضوره والسيد أبو رغيف على الفور، وأكد ضرورة تواجدهما قريبين منه، ليتخذون معاً قرار التعامل مع صيد اعتقدوا أنه ثمين. أما أنا فكان ظني في وقتها، أن السيد قاسم قد أقترب في سره من القرار على تصفية كل من يتبع الرئيس، أو صهره والحزب. أخيراً حضروا بوقت يحسب سريع لقرب بيوتهم من الحسينية.
أشرَّ لهما أن يجلسا على جانب من المكان فجلسا، وجلس معهم فكانوا ثلاثة هم أصحاب القرار وبيدهم المصير. تكلم هو أولاً عن ظلم الرئيس ودور حسين كامل في تعزيز هذا الظلم، فأيداه بإيماءات متكررة، كأنهم يريدون من الكلام والايماءات، تهيئة أنفسهم نداً لمن اعتقدوه مساعداً فعلياً لهذا الوزير المحسوب بحسابات التأثير الرجل الثاني في البلاد، والساعد الأيمن للرئيس أو أنهم يودون تكوين كومة أفكار لدى الحضور تؤيد قرارهم في الحكم بالإعدام المنوي اتخاذه.
بالنسبة لي أكاد لم أتحرك في وقفتي وقد غرقت بنزيز الخجل. نظرت الى من حولي بعينين لا ترمشان، ولكي أستعد لمحاكمة بيني وبين الزمن، اتخذت من الماسك برسغي متكأً، وهاجس الموت قد مس قلبي الواهن، فحوله طبلاً أجوف لا يدمدم، فأوجست منه خيفة.
مددت نظري الى أرجاء المكان المزدحم بالرجال المنتفضين، والمتفرجين، والجواسيس، والصخب، فأدركت أنها توحي بسهولة اتخاذ قرار الإعدام ميدانياً، بل تشجع على هذا، خاصة وإن أجواء الانتفاضة برمتها محتاجة الى تقديم قرابين من أهل النظام، تُنحر في ساحة التعبئة، كما هو شأن الثورات، لتعطي دفعاً قوياً الى مشاعر التمرد في أن تظهر، فالعقول هنا وهناك على وجه الاجمال قَيدها الخوف من ظل الخَيَال لعدة عقود، تقاتل هي أيضاً كي تظهر. تذكرت ساعتها اولئك الرفاق الذين حُكموا بالإعدام، وكيف نفذ بهم رفاقهم الحكم في ساحة تدريب لعساكر يعدون أنفسهم لخوض حروب، فقلت مع نفسي إنها الفرصة الوحيدة التي قدمها الحزب بقصد المساواة بين جميع رفاقه، من خلال المشاركة معاً في اعدام بعضهم بعضاً كرفاق، لكي لم يبق بعد فعل المشاركة بالإعدام فاصل بين مذنب وبريء، وقلت ايضاً أن فعلًا أهوجًا مثل هذا، كان بداية الالغاء المقنن للفواصل بين الرفيق الحزبي والجلاد، وبداية احلال الاذعان المبرمج محل الاحترام الرفاقي المؤدلج، عندها بكيت بصمت، خشية أن يقول الجمهور أني نادم ويثبتوا التهمة بحقي.
كانت رائحة التعرق من أجساد أضناها الظلم تنبئ بالاستعداد للمشاركة في تنفيذ الاعدام، وأنا وسطهم بلغ حالي حد الذهول، وان اعتدت تقبل الأسوأ وسط روتين الانتقام، وتجاوز عتبات الخوف مثل صغار الارانب المذعورة، تمكنت من الوقوف على قدميَّ مستشيطاً من الغيض، أعض على شفتيَّ كي لا أغضب، فأفقد السيطرة على عقل مطلوب ابقائه منبسطاً ليدافع بكفاءة. وكان السؤال التقليدي وسط هذه الجلبةَ وامام حشد ملأ المكان عن الاسم الحقيقي، وكان الجواب على شكل مقدمة لفتح حوار، حَولَ الخوف في داخلي الى حماسة في القول، فقلت: أني قَدِمتُ من بغداد الى هنا، ومهما تكن نوايا مقدمي فاني بحكم الضيف في دياركم الأصيلة حتى يثبت العكس.
سكت الجميع، وهدأ الصخب، وبانت على الوجوه إشارات تنبئ أن مقدمة كلامي قد أطفأت جانباً من نيران العداء المشتعلة في قلوب الهيأة التي شكلها السيد برئاسته للتحقيق، ودفعته الى الاسترسال بكلام كان آخره القول: أيها القادم من بعيد، أنا وكل أهل سوق الشيوخ نرحب بضيوفنا فيما إذا كانوا فعلاً ضيوف، لكننا وفي الوقت ذاته أشداء، قساة على الخونة والجواسيس إذا ما كانوا حقاً كذلك.
عندها وبعد استعادة التوازن والثبات في الوقوف على الارض، سهل عليَّ التحكم بمجريات الحديث، وسهل الطلب بالسماح للجلوس بسبب التعب، وكذلك المرض الذي زاده سجن أبو غريب حداً بات فيه القلب ضعيفاً، لا يقوى على تحمل مثل هكذا صدمات آتية من أهل الدار. فقال أبو رغيف: هل لك أن تعلمنا بدايةً، كيف أنت مساعد حسين كامل، وكنت سجيناً في أبو غريب؟.
- لم أقل عن نفسي مساعداً الى حسين كامل، أو حتى عملت في التصنيع العسكري. ان احد الشباب هو من قالها عند مشاهدة هويتي، حتى لم يعطني الفرصة أن أقول الحقيقة من أني شامل حسين، عقيد ركن سابق، وكذلك بعثي وسفير سابق، دخلت أبو غريب في ١٠ آب ١٩٧٩، محكوماً عليّ سبع سنوات أقضيها سجناً بتهمة الاشتراك في مؤامرة محمد عايش، وكان معي مجموعة تربو عن الستين حكم على بعضهم بالإعدام.
أكملتُ قولي، وتلفتُ الى من حولي وفي الأمام، فرأيت عيون الموت في كل مكان، قلت مع نفسي ساعتها، لا يمكن إدراك الحقيقة، إلا عبر عيون الموت. عند هذه الرؤية بالتحديد، سأل الحاج محمد على الفور عن حقيقة وجود مؤامرة؟.
كانت الإجابة على هذا السؤال مناسبة لجلب الانتباه، وأخذ الوقت الكافي لتقليل مشاعر عداء تتجه الى الازدياد بين الجميع تدريجياً، مثل برادة حديد وضعت جوار قطعة يملأها المغناطيس، وكانت البداية ذكر تفاصيل المحاكمة والسجن، وعند سماعها طلبوا المزيد، والمزيد وعلى الرغم من انتاجه شعور بالاسى، وسريان سموم شلت خلايا العقل، واقتربت من تعطيل الحواس المطلوب بقائها مستثارة على الاخر، كان فرصة سهلة لإقناع الموجودين بالحقيقة التي حجبها الانفعال الثوري القاتل. موت الحديثي مرتضى بحبة الثاليوم في مقدمة السرد، ومن بعده حامد الدليمي الذي تمت اماتته حرقاً بالكحول.
أصبحوا يسمعون بشغف، ويطلبون تفاصيل خاصة عن عملية الحرق بالكحول التي اثارت قدراً أكبر من الاسئلة، وردود الفعل الساعية الى الانتقام، وعنها قلت ومن بعد آخر حفل تعذيب (على فكرة كانت حفلات التعذيب تختلف أعدادها من أسبوع لآخر حسب المنهج الآتي من المخابرات). تلك المخابرات التي بنى الرئيس قاعدة نفوذه من خلالها، إذ إنه ومن البداية كان هذا الجهاز المختص بالتعذيب والقتل والاغتيال يأتمر بأمره، وهو المهندس الوحيد لفعل التعذيب الخاص لهذه المجموعة المختارة من قبله. تعذيب على شكل نوبات تتكرر في اليوم الواحد عدة مرات حسب المنهج الموضوع في الجهاز، حتى بلغ أعلى حد له ست عشرة نوبة في اليوم الواحد، وكان في مساء أحد أيام الجمع من شهر تموز الحار، يوم كان فيه النسيم اللاهب يتسبب في جفاف اللعاب في الحلق لمن يفتح فمه، وقبل صافرة النوم بقليل، بان في الممر الفاصل بين الزنازين چاسب ومعه حارس آخر، يدعى سبهان، يحمل بيده اليمنى غالوناً مملوءاً بالكحول، حيث الرائحة تؤشر الى هذا.
لقد أثار لفظ الكحول فضول أحد الحاضرين، فعلق بخبث وان أراد تغليف تعليقه بالسخرية، قائلاً، أنه (العرگ) ، إنهم كفرة يشربونه بالحذاء. وعلقت أنا بالنفي، وأكدت أنه "السبيرتو". وقد صبوا بعضه على يديّ حامد وقدميه بعد إخراجهما من فتحة الباب المشبكة بالحديد، وقام چاسب بإيقاد النار فيهما من قداحة فضية، حتى احترق اللحم وتهرئ في مكانه، وانتشرت رائحة الشواء، وكأن القاطع في حفل شواء بري، وحامد الرجل المعروف بشدة بأسه يصرخ في البداية، الى أن أتلفت النار الوصلات الحسية في قدميه ويديه، فسكت عن الصراخ، وتجمدت حركاته وردود فعله العضلية، وبدا أخيراً وكأنه في عالم آخر. كان فعلاً في عالم آخر، عالم الاضطراب الفكري الناتج عن صدمة الألم، لقد تشوشت ذاكرته، ولم يعد يقوى على تذكر سوى القليل من أيام الطفولة، في مدينة الحلة التي عاش فيها وكبر في ريفها. لقد ذهبت بصيرته، هي الأخرى لنفس السبب، فلم يعد يعرف المكان الذي هو فيه، ولا السبب الذي وجد من أجله، يهذي بكلمات بعضها غير مفهوم في غالب الأحيان، يلتهم الأكل مثل حيوان جائع، وهو جاثم على بطنه لا يقوى على الجلوس بشكل طبيعي على أليتيه. يشرب الماء بلسان متحرك كما هو لسان الكلب في ولوغه الماء. لقد تركوه هكذا وعندما أقترب الشهر من نهايته، وحلت الحقيقة بإتمام اماتة ثلاثة من السجناء، منعوا عنه الأكل فمات في يومه السابع، وقد أكمل العدد المطلوب للإماتة ثلاثة.
لم يهدأ ذلك الشخص الذي علق على موضوع الكحول، وسأل هذه المرة عن الأعمام الذين ينتسب اليهم حامد، ولم يسكت إلا بعد ان عرف بالتحديد انه من قبيلة الدليم التي تسكن الحلة من مئات السنين، فرد هذه المرة بقدر من الاحترام مكتفياً بكلمة "والنعم". أما غيره من الموجودين، فلم يأخذوا كفايتهم الانفعالية، ولم يشبع عطشهم لمعرفة الماضي هذا السرد الموجز، فكانوا يتحركون في أماكنهم طلباً للمزيد، واستجابة لما يريدون عرجتُ في ختام المشهد الى زميلين لحامد كانا معه في الزنزانة حليم وسالم، حيث لم يستطيعا النوم حتى مماته، وقلتُ ان منظر الجِلد المسلوخ، والتقرح آلمهم وأبعد عنهم النوم، لكنهم كانوا مغلولي الأيدي، لا يستطيعون فعل شيء، ولا حتى اعطائه شربة ماء، بعد ان منعهم چاسب من هذا ومن التقرب اليه، قال لهم بصريح العبارة دعوه يموت، لابد وأن يموت فنهاية الشهر اكتملت هذا اليوم، لا يمكن ابقاؤه حياً بعد الساعة الثانية عشرة بأي حال من الأحوال.
ختم واحد من الواقفين كان في الصف الاخير، التعليقات التي أحدثت ضجة داخل الحسينية " ألا لعنة الله عليهم"، كيف يتركونه يموت عطشًا؟. إنهم قوم كافرون.
لكن آخر قال هكذا هم قوم يزيد، ألم يتركوا الحسين يموت عطشًا؟، أحداث التاريخ تتكرر، ويزيد هذا الزمان هو الرئيس.
أيده الحاضرون بالتكبير بعد أن استحسنوا كلامه.
826 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع