أيام زمان الجزء ٥٨ / الطبخ قديماً -٢
تفتتح الكاتبة والخبيرة الأكاديمية في الطبخ، ومدرسة طبخ مساعدة في معهد التربية المطبخية في نيويورك، كاثي ك. كوفمان كتابها “الطبخ في الحضارات القديمة” مؤكدة أن “الإنسان هو الحيوان الطباخ، وما من مخلوق آخر سواه يعرض طعامه للتسخين ليغير مذاقه قبل أكله، وما من مخلوق سواه طور كل هذا القدر من الأنظمة المعقدة، والعادات للحصول على المواد الغذائية وتحضيرها وتوزيعها واستهلاكها”.
وطرق الأكل الأولى عند الإنسان كانت بسيطة، فالرجال والنساء في العصر الحجري، حصلوا على الطعام باصطياد قطعان الحيوانات الكبيرة، التي كانت تغطي الشرق الأدنى ومنطقة حوض البحر المتوسط، كما كانوا يجمعون ما يتيسر من الفواكه والخضراوات البرية والحبوب، التي يصادفونها على امتداد طريقهم لزيادة أطعمة اللحوم، ولكن يتفق المؤرخون على عدم معرفة كيفية تحضريهم لطعامهم، وذلك حتى مرحلة استخدام الإنسان للنار.
انتقل الإنسان من الموقد إلى استهلاك السمك النهري، كما تشير الاكتشافات والآثار قبل 40000 عام، وخصوصًا بقايا أقدم أنواع الإنسان الحديث في شرق آسيا المعروف بالتيانيوان، ومن السمك ظهرت آثار استخدام الطحين في أوروبا وبالتالي الخبز غير المخمر أو خبز الفطير.
في بلاد الرافدين اختلفت الأطعمة بحسب الطبقة الاجتماعية، إذ لم يعتاد الفلاحون أكل ما يأكله رجال الدين والإداريون والملوك وأصحاب المناصب، وكان بينهم فرقًا شاسعًا في أنواع الطعام وآداب الجلوس على المائدة وعدد الوجبات اليومية.
ومثال على ذلك، اعتبرت الأطعمة المصنعة من الحنطة أو الشعير مثل الكعك والخبز، من أهم المأكولات وكان ينظر إليها على أنها علامة على التحضر، بالعكس من الأغذية التي تعتمد على الحليب واللحوم، فقد كانت تعتبر واحدة من الأطعمة غير المتحضرة لاعتماد البدو والبرابرة عليها بشكل كبير.
ولاحقًا، أثر نظام ملكية الأراضي على الثروة الغذائية وأمن الطعام، فقد أصبحت لحوم الحيوانات الداجنة غالية جدًا، ومتوفرة فقط لمن يملك أرض ويربي الحيوانات في مزرعته الخاصة، وهذا بالعكس من الفقراء الذين اتجهوا إلى الأطعمة البرية التي نظر إليها الأغنياء بازدراء، لكنهم في نفس الوقت، كانوا يتمتعون باصطيادها كنوع من الترف المعيشي على اعتبار أنها هواية رياضية.
بعد ذلك، ومع انتقاص الطرائد البرية توجه البدائيون للاعتماد على الزراعة، ورغم أنها أرغمتهم على انتظار نموها طويلًا، فإنها كانت توفر فوائض طعام لهم، وهذه الزيادة كانت تحفظ في مخازن ومستودعات ليستخدموها مجددًا عند الحاجة، ويحموها من السرقة والتلف، ونتيجة لهذا الاستقرار، تشكلت القرى والبلدات والمدن ومن ثم الحضارات، وتحول البدائيون إلى مزارعين مستقرين، وهذا بالمقارنة مع طراز حياة الصيد التي كانت لا تستغرق أكثر من ثلاث ساعات يوميًا لتأمين قوت اليوم.
كانت تزين موائد الطبقات الغنية بالأواني الفضية والذهبية والبرونزية، بينما تكسى موائد الفقراء بالأواني الخشبية والفخاريات، وفي أحيان كثيرة كان يتم الاستغناء عن هذه الأدوات لتناول الطعام بأطباق جماعية وعن طريق الأصابع.
في الأدب السومري ذكر أن الحليب كان يقدم في أوعية من مرمر للآلهة في المعابد، وهذا ما أصاب المؤرخون بالشك بشأن مكانة الحليب في بلاد الرافدين، فمن المرجح أنه إذا اعتلت مكانة الحليب دينيًا أن يجد له متسعًا في قصور الأمراء، واعتبرت الأفران الحجرية واحدة من أهم الإنجازات التي اكتشفها السومريون، في هذه الأفران الحجرية يمكنهم فيها أن يخبزوا أرغفة الخبز ومنهم انتقل هذا الإنجاز إلى كل العالم الذين يستخدمون الفرن الحجري لشوي الخبز حتى وقتنا هذا.
مثال على أبذخ هذه الولائم، وليمة الملك الآشوري آشور ناصربال الذي أراد الاحتفال بأعمار مدينة كلخو وباتخاذها عاصمة له، فأقام حفلًا لمدة عشرة أيام مستضيفًا آلاف الضيوف، حيث نقشت المواد التي استهلكت في ذاك الوقت، على عمود حجري وجد عام 1951، ومن بين الأطعمة المقدمة ألف ثور علفة الشعير، ومئتي وألف من الأبقار الصغيرة، وألف من الأغنام الصغيرة، وألف وأربعمائة من الاعتيادية وألف من المسمنة، وغيرها بالآلاف من الغزلان والظباء والأسماك والجراد.
أما وجبات الآلهة وهي من المعتقدات الدينية القديمة لسكان بلاد الرافدين، أن للآلهة احتياجات مماثلة للمتطلبات البشرية، لذلك حظي الملوك البابليون أو الآلهة كما يطلق عليهم بأربع وجبات يومية، ولتلبية هذه الاحتياجات، كانت القصور والمعابد تجمع الضرائب من الناس على شكل حبوب وحيوانات ومواد أخرى، ومن ثم يقدمها الكهنة في أوعية وأقداح مزينة، ويتركونها على موائد كبيرة متحركة ويسدلون ستائر من الكتان لتأكل الآلهة، ثم تقدم البقايا إلى المقيمين في القصر الملكي وأبنية المعبد، وقد توزع على السكان كصدقات.
تنقلنا هذه التفاصيل إلى فكرة أعمق عن تاريخ المطابخ في الأزمنة القديمة، التي كانت تشكل قيمة اجتماعية ودينية لدى مختلف الشعوب، إذ تميز كل منها بنوع وأسلوب معين، اقترن باسمها حتى هذه اللحظة، مما زاد فضولنا بخصوص مطابخ الحضارات الأخرى وهذا ما سنتابعه في تقرير لاحق.
يحدثنا الأديب والمؤرخ العراقي محمود شكري الألوسي في كتابه "بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب" عن المائدة عند العرب قبل الإسلام، بأنها اشتهرت باستخدام لحم الصيد والسويق والألبان ونبتة القيصوم الصحراوية.
فيما كان أحسن اللحوم عندهم لحوم الإبل، وكان منهم من يستطيب أكل الضب، إضافة إلى المواد التي يطبخونها نبتة الشيح الصحراوية، والأرانب وغيرها من حيوانات الصحراء التي كانوا يصطادونها.
أما عن أطباقهم وأكلاتهم، فيذكر الألوسي لائحة بأهم طبخاتهم ومنها "العصيدة" المكونة من الدقيق والماء مضافًا له سمن ولبن محلّى بالعسل أو السكر و"الحريقة" المعدّة من الدقيق على ماء أو لبن حليب فيحسى وتكون أغلظ من "السخينة" التي كانوا يأكلونها في أوقات الفقر الشديد
من أشهر الأكلات العربية في العصر الجاهلي "الثريد"، وهو الخبز والمرق أي أنه الخبز المفتّت مع المرق إضافة لأكلات كثيرة مشابهة كـ "الصحيرة"، أساسها اللبن المغلي الذي يضاف إليه الدقيق التي تشبه أكلة "الرغيدة" وكذلك "العذيرة" التي تصنع من الدقيق الذي يضاف إليه لبن ثم يحمى بالرضيف (وهي الحجارة التي يوقد تحتها ويطهى عليها اللحوم).
وهناك "العكيسة" المكونة من لبن يصب عليه "الإهالة"، وهي عبارة عن شحم المواشي المذاب، و"الفريقة" أساسها الحلبة التي تتم إضافتها إلى اللبن والتمر وتقدم إلى المريض والنفساء، و"الصفيف" تطلق على ما "صُفّ" من اللحم على الجمر ليشتوي.
وعن حب العرب للجراد فهناك طبق "العبيثة" عبارة عن لبن يلقى فيه الجراد وقيل هو "الأقط"، لبن محمض يجمد حتى يستحجر ويطبخ أو يطبخ به، وخلافا لبلاد الرافدين ومصر فإن أدب المطبخ الإغريقي زاخر وغزير "فقد ابتكر الإغريق فن الكتابة التذويقية، ولم يتعبوا أبدا من مناقشة الأطعمة، وشئون الطبخ من منظور نقدي، وكلمة "فن التذوق" تجمع بين جذرين إغريقيين يعنيان "المعدة" و"القوانين" وفي اللغة الإنجليزية الحديثة، يرد التذوق بوصفه فن الأكل الجيد وعلمه، مما يشف عن التقدير الإغريقي الخرافي للطهو الفاخر، وبحلول القرن الخامس ق. م، ربط الإغريق الطعام بالطب في مقالات تعليمية وكتبوا كتبا عن الطبيخ، وصلتنا شذرات منها، وأوجدوا مدارس في الطبخ، بل سخروا من الطباخين المخادعين وصوروهم كشخصيات بليدة في المسرحيات الملهاة الإغريقية". وتلفت المؤلفة كوفمان إلى أن البنى الأساسية للوجبات في بلاد الإغريق القديمة كانت تتركز على الحبوب الأساسية التي تجملها الأطباق الجانبية وهي الأطباق الثانوية أو المقبلات المحضرة من اللحوم والأسماك والخضر والفواكه والبقول والألبان، وفي العصر الكلاسيكي كانت الوجبات الرسمية تؤكل عموما من دون خمور، تظهر الخمرة في الوليمة أي حفلة الشراب بعد اكتمال وجبة الأكل الرئيسية، وتمتد الوليمة من مناقشة موضوع تأملي إلى نوبات الشرب المعربدة التي تنتهي بالموسيقيين والألعاب الاحتفالية والمحظيات والسلوك الشائن، أما الوجبات غير الرسمية فقد تضم الخمرة، وتميل المآدب والاحتفالات العامة، يتمدد الرجال البالغون بينما يجلس الصبيان والرجال الأقل منزلة في الحضور، ويتناولون تلك الأطعمة التي يختار إعطاءها لهم والذكور الكبار، وكان يطلق على هؤلاء المتواكلين اسم الطفيليين، ويقدم الأكل على موائد صغيرة يشترك في أكثرها اثنان أو ثلاثة آكلين، وتستخدم السكاكين والملاعق، وكانت الجفان والأوعية وأدوات الشرب الفردية تصنع من الطين أو المعادن كالفضة أو الذهب أو البرونز.
وكانت أدوات المطبخ عبارة عن جِرار وأوانٍ فخارية مُتنوعة الأشكال وأباريق وأدوات مائدة وأوانٍ أخرى مختلفة وموائد ذات قوائم ثلاثة أو أربعة لإعداد الطعام، وكان الطاهي يبدأ بوضْع الدُّهن داخل القِدر، ومن المُحتمَل أيضًا أن تكون محتويات القِدر من الخضار المُتبَّل، ثم يُحرِّك ما بداخل القِدر بمغرفةٍ كبيرة ويتبيَّن كل ذلك من خلال مناظر الطهي التي جاءت على جُدران مقابر الأفراد في سقَّارة والتي تؤرَّخ بعصر الدولة القديمة.
ولقد اختلفت أشكال أواني الطهو باختلاف أشكال المواقد التي كان يتمُّ الطهو عليها، وكانت الأواني الفخارية هي الأكثر استخدامًا في هذا الشأن وتنوَّعَت المواقد التي استُخدِمت في أغراض الطهو ما بين الصغيرة والكبيرة؛ ومِن ثَمَّ تنوَّعت أيضًا أواني الطهو ما بين صغيرة الحجم وكبيرة الحجم، وكانت هذه المواقد عبارة عن كُتلة من الحجَر غالبًا مُستطيلة الشكل مُجوَّفة من أعلى، بحيث يُملأ هذا التجويف بالوقود المُشتعِل ويوضَع فوقَه إناءُ الطهو.
ولقد عُثر على أوانٍ حجرية ربما كان لها صِلة بأغراض طهو أو تقديم الطعام، ففي أحد آبار الدفن الموجودة ضِمن مجموعة زوسر بسقارة، عُثر على طاسةٍ أو سلطانية من الحجر الجيري، تُشبِه قوالب إنضاج الخُبز والحلوى وبها آثار الاستخدام، ويُؤَكِّد احتمالية استخدامها في هذا الغرَض أنه عُثر بنفس المكان على تمثال لسيدةٍ جاثية تقوم بعملية صناعة الخُبز. وفي إحدى مقابر دير البرشا عُثر على سلطانيةٍ من الحجر الجيري، وُجِد بداخلها آثار احتراق وتَبيَّن بالدراسة أنها استُخدِمت في تجهيز تقدِمة خاصَّةٍ للمُتوفَّى، ربما كان إعداد وتجهيز نوع من القُربان كطعامٍ للمُتوفَّى، تؤرَّخ هذه المقبرة بعصر الدولة الوسطى.
أما المواقد المستعملة سابقا منها الطابون: دائرة ترابية مفتوحة السقف، صممه الفلاحون؛ لصناعة الخبز من التربة الجيرية بعد خلطها بمادة التبن والماء وتعريضه لأشعة الشمس حتى يجف، ثم يطمر بعد ذلك بالرماد وروث الحيوانات الجاف (الزبل)، بعد تغطية الطابون بغطاء حديدي خاص، ويوضع داخله حجارة مكورة ملساء يطلق عليها اسم الرضف أو الرظف، ويوقد عليه النار حتى يصبح بدرجة حرارة كافية لإنضاج العجين، ينبغي المحافظة على درجة الحرارة هذه باستمرار من خلال إضافة (الزبل) يومياً على الطابون، استخدم الفلاحون الطوابين أيضا للتدفئة عبر طمر الحطب الجاف في الزبل لنصف يوم حتى يتحول إلى فحم ملتهب، ثم يخرجونه من رماد الزبل ويوضع في الطابون.
وكذلك صاج لصنع الخبز: وهو صحيفة معدنية رقيقة مقعرة تستعمل لصنع خبز الشراك الرقيق من العجين غير المخمر، يستعمل بكثرة عند البدو. ويستخدمه الأهالي في الريف في الأفراح والمناسبات لإعداد خبز الشراك على الصاج لاستعماله كثريد للمنسف.
المرجع: الطبخ في الحضارات القديمة. كاثي ك. كوفمان.
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/mochtaratt/65805-2024-12-01-17-59-45.html
1057 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع