موزارت وسالييري
القدس العربي/زيد خلدون جميل*:كيف تتطور الإشاعات بين الناس وعبر الأجيال وتتحول إلى حقائق تاريخية يعتبرها الكثيرون أحداثا غيرت التاريخ؟ وهل للأعمال الأدبية أو السينمائية دور في هذا؟ قد يجد القارئ هذا شيئا غريبا، ولكننا سنأخذ مثلا بسيطا، فإذا سألنا أحد هواة السينما أو التاريخ عن كيفية وفاة الموسيقار النمساوي موزارت عام 1791، فإن الجواب المعتاد، أنه قتل على يد منافسه الموسيقار الإيطالي سالييري الذي كان يخطط لسرقة آخر أعماله. إن انتشار هذا الرأي ولفترة طويلة حوله إلى حادثة تاريخية في الذاكرة الشعبية.
ولكن هذا الرأي في الحقيقة عديم العلاقة بالتاريخ، لأنه من اختلاق فيلم شهير بعنوان «أماديوس» (1984) نال ثماني جوائز للأوسكار، أي أن هذا الادعاء كان مختلقا تماما من قبل القائمين على الفيلم، حيث قاموا بخدعة معروفة في عالمي الأدب والسينما، لترويج عملهم، على الرغم من تصريحهم بأن فيلمهم لم يكن قائما على أي حقيقة تاريخية. ولكنهم بالتأكيد نجحوا في جذب اهتمام كبير، وعدد غفير من المشاهدين والمعجبين.
وبدأت الخدعة باستخدام اسم شهير في مجال بالغ الأهمية في الثقافة العامة، فاختاروا اسم «أماديوس»، الذي أشار إلى الموسيقار العالمي موزارت، حيث كان اسمه الكامل وولفغانغ أماديوس موزارت، وبذلك جذبوا المشاهدين بسهولة، ثم تصويره على شكل الفتى العبقري الذي يتمرد على المجتمع والسلطة في إنتاجه الموسيقي وتصرفاته الشخصية مثيرين بذلك إعجاب المشاهدين. وبعد ذلك تصويره كضحية لاضطهاد المسؤولين، وبهذه الطريقة ينجح المؤلف في كسب تعاطف الجمهور. ولتقوية التأثير على المشاهد، كانت السلطة المضطَهِدة موسيقار البلاط الامبراطوري الكبير في السن والقبيح المنظر الإيطالي سالييري، الذي لم يجد اضطهاده كافيا، فيتنكر ويزوره في منزله أثناء مرضه طالبا منه لحنا جنائزيا مقابل مبلغ كبير من المال، إذ كان يعرف تماما أن هذا العمل سوف يرهق موزارت، المنهار صحيا أصلا، حتى الموت. ولكن موت الموسيقار ليس كل ما يريده سالييري، حيث أراد سرقة اللحن كي يدعي أنه مؤلفه ويعزفه أثناء جنازة موزارت.
يوافق موزارت وينكب على العمل كالمجنون ويتوفى بسبب الإرهاق ومرضه، ولكن سالييري يفشل في سرقة مخطوطة اللحن. وبذلك يزداد وقع الفيلم على المشاهد، إذ تضمنت النهاية جريمة قتل لعبقري بائس على يد رجل السلطة الثري الذي يفشل لحسن الحظ في محاولته للسرقة. وانطلت الخدعة على أغلب المشاهدين، وأصبح مقتل موزارت المزعوم حقيقة تاريخية. ولكن التاريخ يقص حكاية مختلفة تماما، فلم تكن هنالك جريمة قتل أو صراع قاس بين الرجلين، بل إن القواسم المشتركة بينهما فاقت المتناقضات بينهما بكثير. ولكن من كان سالييري؟ إنه الإيطالي أنتونيو سالييري (1750 – 1825) أشهر موسيقيي عصره في أوروبا، لاسيما في مجال الأوبرا. وكان مغرما بالموسيقى منذ طفولته، على الرغم من اعتراض والده، ومع ذلك كرس نفسه للموسيقى وبرع فيها. وكان قد جلب إلى القصر الإمبراطوري في فيينا في سن الخامسة عشر، حيث رعاه الإمبراطور النمساوي وأصبح عام 1774 مدير الأوبرا الإيطالية في فيينا، ثم موسيقار البلاط الإمبراطوري عام 1788 ما سمح له بالهيمنة على فن الأوبرا في الإمبراطورية النمساوية (الإمبراطورية الرومانية المقدسة) من خلال كون العاصمة فيينا مركز الموسيقى في القارة الأوروبية. وكان أيضا أشهر مدرس للموسيقى والغناء في أوروبا، حيث تتلمذ على يديه بعض أشهر موسيقيي الجيل التالي له مثل، بتهوفن، وشوبرت، وليست، وبرليوز. ولجميع هذه الأسباب حافظ سالييري على مستوى بارز من الناحيتين المالية والاجتماعية. وقد عرف باهتمامه بعمله واتزان شخصيته وعلاقاته الشخصية بالكثير من المحيطين به، بالإضافة إلى ذكائه. وعرفت موسيقاه كونها تقليدية وتفتقر إلى التجديد.
أما موزارت (1756 – 1791)، فكان عبقري الموسيقى في عصره، حيث أدهش العالم ببراعته الموسيقية منذ طفولته، حيث قام بأول عرض له أمام الجمهور في سن الخامسة، وألف أول سيمفونية في سن الثامنة. وكان المحفز الأول له والده الموسيقي، الذي علمه مبادئ هذا الفن. وحقق موزارت ثمانمئة عمل في جميع أنواع الموسيقى المعروفة في عهده، وعرفت موسيقاه بكونها جديدة ومثيرة في نمطها. وعلى الرغم من كل هذا وإجادته لعدة لغات، حسب ظن بعض الخبراء، فإنه كان يجد صعوبة دائمة في العثور على عمل، ما جعله يواجه مشاكل مالية دائمية. وقد يكون السبب عدم قابليته على التعامل مع الآخرين، لاسيما أصحاب العمل والأرستقراطيين. وعلى الرغم من كونه سليط اللسان بعض الشيء، فإنه لم يكن المهرج الذي ظهر في الفيلم، ولم يضحك بهذه الطريقة البلهاء.
نعود إلى خلافهما المزعوم. لم يكن هنالك خلاف بين موزارت وسالييري، بل كان هناك احترام متبادل ومنافسة لطيفة. وكانا في تواصل مستمر تطور أحيانا إلى تعاون، إذ أنهما تعاونا في تأليف إحدى القطع الموسيقية في إحدى المرات، كما قام سالييري بعزف مقطوعات موسيقية لموزارت. ومن المعروف أن موزارت شعر بسعادة عارمة عندما اكتشف حضور سالييري تمارين أوبرا «الناي السحري» التي تعد إحدى أشهر أعماله. وكان سالييري، أحد القلائل الذين حضروا جنازة موزارت وقام بتدريس ابنه الموسيقى بعد ذلك.
إذا كان نوع من الجفاء ظاهرا في بعض الأحيان، فقد كان ذلك من جانب موزارت، الذي اعتبر نفسه الأعظم في تاريخ البشرية، ولم يكن التواضع من شيمه. وكتب ذات مرة إلى والده شاكيا من سالييري الإيطالي، متهما إياه بأنه حجر عثرة في محاولاته للحصول على وظيفة مرموقة في القصر الإمبراطوري، كما استشاط غضبا عندما عُيّن سالييري مدرسا لإحدى الأميرات على الرغم من أن سالييري كان المدرس الأشهر. ولكن قد يكون هذا محاولة من موزارت لتعليل فشله في الحصول على عمل. وقد يكشف هذا عن جانب سيئ من شخصية موزارت، إذ عرف عنه حقده الخفي تجاه جميع الموسيقيين المنافسين، لاسيما الإيطاليين، لأنهم كانوا الأبرز في عصره على الرغم من أنه لم يظهر هذا أمام سالييري، ففي رسالة له إلى والده وصف الموسيقي الإيطالي الشهير مزيوكلمنتي بأن موسيقاه عديمة القيمة، وأنه محتال مثل جميع الإيطاليين.
ومن الممكن القول إن هذا الأتجاه المعادي للإيطاليين ربما شجعه قرار سياسي من الإمبراطور النمساوي، فالقائمون على الموسيقى في تلك الفترة في فيينا كانوا من الإيطاليين، ولكن الإمبراطور جوزيف الثاني، قرر دعم الثقافة الألمانية، حيث أسس المسرح الوطني على أسس ألمانية، ما يعني دعم الموسيقيين الذين يتكلمون الألمانية، وجعل الأوبرا ألمانية اللغة.
ومن المرجح أن هذا خلق عداء بين تجمع للموسيقيين الألمان تجاه الموسيقيين الإيطاليين في فيينا، على الرغم من أن الإمبراطور لم يتخل عن سالييري.
ومما هو جدير بالذكر أن سالييري كان أقرب الموسيقيين الإيطاليين إلى النمط الألماني في العمل الموسيقى، كما أنه قضى معظم حياته في فيينا، إلا أنه لم يستطع أن يتقن اللغة الألمانية أبدا. وفي نهاية المطاف أصيب سالييري بانهيار عصبي وحتى الخرف، وكانت نهايته بائسة بعد حياة مليئة بالمجد. ويقال إنه أقر بقتله موزارت في تلك الفترة، ولكن هناك شكوكا حول حقيقة هذا الإقرار، لاسيما أنه كان في حالة انهيار وأنه نفى الحكاية برمتها قبل ذلك.
ركز الفيلم على الموسيقى الجنائزية، التي لحنها موزارت. ومن المعروف أن سالييري قام بتلحين قطعة موسيقية جنائزية كذلك. ولكنه خصصها لتعزف في جنازته فقط، بينما كانت الموسيقى الجنائزية التي لحنها موزارت، أحد أشهر القطع الموسيقية في العالم. ولم تكن هذه القطعة لجنازته هو حيث كلفه أحد النبلاء بتأليفها مقابل أجر مالي، إلا انه لم يكملها بسبب وفاته المفاجئة، فأكملها تلميذه سوسماير.
الغريب في الأمر أن شهرة «موزارت» ازدادت بعد وفاته بشكل هائل، ويعد اليوم أحد أعظم من ألف الموسيقى، ولا ينافسه سوى الألماني بتهوفن. ولعل موزارت كان الأكثر موهبة بين الاثنين، ولكن بتهوفن كان الأكثر ثورية في عمله. أما «سالييري»، فقد تلاشت شهرته وطواه النسيان حتى عرض فيلم «أماديوس» حيث أعاد الفيلم الاهتمام بموسيقاه وقامت المدينة الإيطالية التي ولد فيها بتنظيم مهرجان أسبوعي تكريما له، وأقيم له مهرجان موسيقي كبير في فيينا هذه السنة بمناسبة مرور مئتي عام على وفاته.
كانت وفاة «موزارت» في سن الخامسة والثلاثين صدمة مفاجئة في عالم الموسيقى الأوروبية، واختلق أحدهم حكاية مصرعه على يد سالييري. ويقال إن زوجة موزارت كانت أول من ذكر ذلك، على الرغم من عدم قدرة المؤرخين إثبات ذلك، لاسيما أن شقيقته وأقرب أصدقائه لم يذكروا شيئا من هذا القبيل. وقد يكون من اختلق هذه الأشاعة الكاذبة تجمع الألمان المضاد للموسيقيين الإيطاليين. وانتشرت هذه الإشاعة في الأوساط الموسيقية حتى سمع بها سالييري نفسه، ما اُثار انزعاجه بوضوح. ويذكر المؤرخون أن الموسيقار الأيطالي روسيني، ذكر هذه الإشاعة بنفسه لسالييري ضاحكا عام 1822. ولكن المؤرخين أكدوا أن موزارت لم يتعرض للقتل، بل توفي بسبب عمله المتواصل وسوء الرعاية الصحية في زمنه. وكان من الممكن أن ينسى الجميع هذه الإشاعة مثل غيرها من الإشاعات. ولكن الشاعر الروسي أليكساندر بوشكين ألف مسرحية شعرية عن هذه الحكاية الخيالية عام 1830 وتبعه الملحن الألماني ألبرت لورتسنغ، الذي ألف أغنية عنها عام 1832. ومما زاد الطين بلة، قيام الموسيقار الروسي نيكولاي ريمسكي كورساكوف، بتلحين أوبرا عن حادثة القتل المزعومة عام 1897. واستمر الأمر في التطور، حيث قام الكاتب المسرحي البريطاني بيتر شافر بتأليف مسرحية مقتبسة بعض الشيء من مسرحية بوشكين، عرضت في لندن عام 1979 ثم اقتبس منها فيلم «أماديوس» الشهير لتتطور حكاية مقتل موزارت إلى اعتقاد شعبي شائع وكأنه حقيقة تاريخية.
*باحث ومؤرخ من العراق
736 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع