الكرخ ... والحنين الى الذاكرة /ح4 مناسبات وتقاليد
حفلات الختان ( الطهور )
ختان الرجال أحد أهم واجمل محطات العمر خلال مسيرة حياتهم وكذا الحال بالنسبة الى اول يوم دراسة واول يوم زواج واول مولود والعودة من الديار المقدسة ووفاة الاعزاء والخلان وهكذا تمضي الحياة افراح واتراح وكلها بمشيئة الله عزوجل ، عملية الختان سنة اسلامية عرفها العرب منذ زمن ( سيدنا ابراهيم عليه السلام ) الذي اجرى اول عملية ختان لنفسه بواسطة ( جدوم ) وهي آلة حادة تشبه الفأس كما قرأت ذلك في كتاب قصص الانبياء وقد ثبت علميا صحتها وانتشرت بين الاديان الاخرى وانتقلت الى النساء مؤخرا بما يعرف ( ختان الاناث ) الذي اثار جدلا بين معارض وموافق في مصر ..
في محلات بغداد القديمة ومنها الكرخ جرت العادة ان تتراوح اعمار الصبية الذين يستحقون الطهور بين سنة الى اربعة سنوات او اكثر احيانا ، اما الان فقد تغير كل شئ تماشيا مع عصر السرعة واخذ الناس يختنون اطفالهم بعمر بضعة ايام ، ربما في الايام القادمة ستتم عملية طهور الاولاد على الانترنيت ، نعود الى الزمن الجميل كما نطلق عليه نحن ( الختيارية ) فقد كانت الاستعدادات تبدأ قبل اسابيع وربما أشهر من الموعد الحدد للطهور ، كان من عادة الكرخيين جعله طهورا جماعيا قدر الامكان للاخوة والاقارب والجيران وتتحمل العوائل الميسورة دفع المصاريف كأجر وثواب واتذكر حينها شاركني الطهور اخي الاصغر وابن شقيقتي وثلاثة من اولاد جيراننا كان ذلك الحدث الرهيب صيف عام 1952 ، يتهيأ الناس بترتيب بيوتهم لهذا الحدث السعيد والاكسسوارات المطلوبة وفي مقدمتها الدشاديش التي سيرتديها المتطهرون وهي ذات لونين الاولى بلون وردي فاتح ترتدى اثناء حلاقة رؤوسهم والثانية بيضاء ليوم الطهور وتهيئة سرير مناسب يجلس عليه المساكين اثناء العملية ، تجري حلاقة الرؤوس من قبل حلاق المحلة ومساعده وكان حلاقنا ( الاسطه يوسف ) ولم يتسنى لي معرفة العلاقة الجدلية بين قص الشعر وقص الجلدة الزائدة من العضو الذكري للاولاد ..
المهم ارتدينا الدشاديش الوردية وحضر الحلاق وبدأت مراسيم الحلاقة وسط زغاريد النسوة واصوات الفرقة الموسيقية بقيادة المايسترو ( صالح الخشمان ) ونثرت الحلوى ( الجكليت والحامض حلو ) فوق رؤوس الحاضرين والمتطهرين ونالت المزيقة حصتها من جيوب الاهل والاقارب...
بعد يومان تحدد موعد الطهور وارتدينا الدشاديش البيضاء ايذانا ببدأ العملية ، الحالة النفسية كانت حاضرة بقوة وهم ينصتون بأهتمام مايدور خلف الكواليس من قصص طهور الاخرين فتهبط المعنويات الى ما تحت الصفر ، دقات القلب اخذت بالتسارع عندما أعلن عن حضور ( الزعرتي ) المسمى دواح الذي كان يرتدي زيا غريبا لازلت اتذكره عرفت بعدها انهم قد نزحوا من تركيا ، وكان قد حضر قبله جمع هائل من الناس واختلط الحابل بالنابل فوضى وهلاهل وموسيقى واهازيج تبعث على الخشوع والنساء والرجال يبكيان ويبدو انها من شدة الوجد والايمان والذكريات القديمة وهكذا وسط تكبير الرجال وهلاهل النسوة تقدم دواح بدم بارد بعد ان سبقه رجلين قاما بحملنا الى السرير المخصص للطهور ، ملامح وجوههم تنذر بالهلع والخوف كأنما يسوقوننا الى المقصلة والانكى من ذلك يتمتمون بكلمات مثل ( لاتخافون ياولد يعني موتوا من الخوف بالنسبة لنا ) في الحقيقة كان بأختصار فلم رعب اخرجه اهلنا قبل ان نشاهد افلام المخرج العالمي (الفريد هيتشكوك) ، العملية كانت عبارة عن ازالة قطعة من الجلد لايزيد حجمها عن سنتمترين فقط ويلف بلفاف بعد تعقيمه ويسبق العملية وضع حلقومة كبيرة في فم المتطهر لكي لايطلق العنان لصراخه من الوجوه التي تراقب العملية وليس منها ، ويتطوع قسم من الحضور لجلب المهافيف وتحريكها فوق اجسامنا من حرارة الجو وزحمة الحضور ، تمت العملية بنجاح واستمر الحفل الى المساء حيث اقيمت وليمة عشاء فخمة تلاها مولود فرح أحياه مطرب المقامات ( يوسف عمر)....
وقارئ القران الكريم ( عبد الستار الطيار ) حتى منتصف الليل ليلة لايمكن ان تنسى في حياة الانسان مهما كبر والاهم يجب على المتطهر ان يرفع دشداشته الى الاعلى عندما يقف او يمشي ليعلن انه قد اصبح في عداد الرجال والا يفسد الطهور ، هكذا كانت تقاليدنا في الماضي الجميل .
حفلات الزواج
أمنية كل سيدة عراقية اصيلة ان ترى ولدها عريسا مهما كلف الثمن ، في الكرخ كان الزواج المبكر السمة المميزة للزيجات السعيدة ، تتهيأ العوائل مبكرا لتأمين متطلبات العرس التي كانت لاتتعدى غرفة النوم مع الملابس اومايطلق عليه ( الجهاز ) وطقم الذهب او قطعة منه حسب الامكانية المادية المتوفرة للوالد وكان قسم منهن يفضلن الحجول الذهبية التي تلبس في اسفل القدم ، لم تكن الخواتم ( الحلقات ) الذهبية معروفة آنذاك التي وصلتنا من الغرب وتركيا ، يحدث الزواج بحالتين اما الشاب يفاتح والديه في رغبته بالزواج او يسبقه والديه بذلك ، تسعى الوالدة لتزويجه باقاربها اولا والوالد يتمنى ان يتزوج ابنة اخيه ان توفرت اما اذا تعذر ذلك فتتعهد والدته واخواته بأنتقاء بنت تلائم اهله اولا واخيرا ، تحضرني نكته سمعتها قبل فترة تقول :
( ان شابا اعجبته احد الفتيات واخبرها بانه سيحضر والدته معه لخطبتها وعندما دخلت والدته تقدمت ثلاث فتيات وجلسن امامها فقال ولدها عرفت من هي التي اخترتها فاجابته يمكن الوسطانية ضحك ولدها وقال كيف عرفت فقالت له على الفور سبحان الله قلبي مرتاحلها ) ...
معركة الزواج اقصد مراسم الزواج تبدأ بخطبة النساء للعروس بحالة كونها غريبة بعض الشئ فتبدأ الخطابات برمي ( جرا ب الكذب ) اي جعل العريس ملاك واهله اغنياء ودارهم قصر شعشوع الخ تبدأ بعدها عملية فحص العروس فتمسك احداهن شعرها وتجره للتأكد من كونه طبيعي ثم تجرى اختبارات النظر والسمع والكلام وصحة العقل وتخضع لاحتبار الطبخ والنفخ والمسكينة لاتستطيع اللحاق بالاجوبة اما اذا كانت النتيجة سالبه فالجواب جاهز (ماكو قسمه) ، المرحلة الثانية من التصفيات هي من نصيب الرجال حيث يصحب والده جمهرة من الاقارب والجيران لزيارة دار العروس لطلب يدها من والدها وعادة يتطوع اكبر الضيوف سنا لطلب يد العروس المصون من والدها وبحالة الايجاب تصدح الهلاهل والقبلات ونادرا مايتحدث الاباء عن تفاصيل المتقدم والمتأخر وتترك التفاصيل للنساء وينتهي دور الرجال غالبا بدون مشاكل ، في الحقيقة يعتقد اغلب الناس ان هذه التفاصيل ليست مهمة اوتحصيل حاصل ولكن الحقيقة هي بالضد من ذلك فبكثير من الاحيان لاتتفق النساء وبالذات بموضوع الجهاز والذهب والمتقدم والمتأخر الذي يثبت بعقد القران وتستمر المناوشات بين كر وفر الى ان يشهر احدهم الراية البيضاء ثم يتم شراء نيشان العروس بعد شد وجذب لينتقلوا الى المرحلة الثالثة من التصفيات المؤهلة لكؤوس المهر ( عقد القران ) ...
وجرت العادة ان يتم بدار العروس التي يفترض ان ترتدي طقما من الملابس البيضاء وتضع امامها صينية فيها بعض الاشياء وفي مقدمتها المصحف الشريف وهو مفتوح حيث يتجمع الاقارب والاهل وبحضور شيخ المسجد او السيد ولاحقا القاضي ويتطوع وكيلان للعريس والعروس ليشهدوا على عقد القران الذي يشترط فيه ان يسأل الشيخ العروس من خلف حجاب ثلاث مرات عن قبولها بفلان زوجا لها وبعد اجابتها بالايجاب تصدح الزغاريد والجكليت والشربت يوزع على الحضور ولاحقا يتم توزيع المناديل مع كيس صغير من النايلون توضع فيه سبع قطع من الجكليت والمسقول ، المرحلة الرابعة هي لشراء الجهاز ( الملابس بانواعها وتفاصيلها وبعض الحاجات النسائية الاخرى والفراش وغرفة النوم ) ،
قبل موعد العرس باسبوع تتجمع بنات ونساء العائلتين في بيت العروس ليعملوا ( الحنة ) وهي عادة معروفة توضع فيها عجينة الحنة بأيدي العروس واخوات العروسين والبنات وسط الاغاني والرقص من الحاضرات ، المرحلة الخامسة من قطار العرس سنتوقف فيها عند (ليلة العرس ) في هذه الليلة تتراكض الاحداث بسرعة في داري العرسان فالعريس يذهب اولا الى الحلاق ثم الى الحمام الشعبي في المنطقة بصحبة رفاقه ويجلف جلده بالكامل على يد ( مدلكجي ) الحمام ليخرج بعدها الى داره ويرتدي ( قاط العرس ) كان في السابق الزي العربي الكامل ثم تطور الحال واصبحت البدلة مع ربطة العنق ويرتدي زملائه ملابس حديثة ايضا وجرت العادة ان يختار اثنان من رفاقه يمشون اثناء الزفة يمينه وشماله ممسكين بيديه ويسمون ( السراديش ) ومفردها سردوش ولايسألني احد عن اصل الكلمة واجب السراديش الحقيقي هو رفع معنويات العريس واخراجه من حالة الخجل وذلك بالرقص والغناء وانشاد الاهازيج الشعبية المعروفة مثل ( شايف خير ومستاهلها ) ( مبارك عرسك ياخونا ) اما العروس فتؤخذ ايضا الى حمام النساء مع صويحباتها واخواتها واخوات العريس بالطبع ثم تحضر الحلاقة الى دارها لتكمل زينتها وترتدي فستان عرسها الابيض والزغاريد حاضرة بقوة هنا بأنتظار قدوم فارس الاحلام ليخطفها على صهوة جواده الابيض الى جنة الاحلام ، نعود الى دار العريس اذ كان من عادة الكرخيين اصطحاب الضيوف لتناول طعام العشاء في احد المطاعم المعروفة وكان ( مطعم الشمس ) في ساحة الشهداء سيد مطاعم الكرخ قبل ان يسحب البساط منه ( مطعم شباب الكرخ ) القريب منه تصحبهم بالطبع الفرقة الموسيقية التي تعزف السمفونيات الخالدة ذهابا وايابا ، يخرج الرجال من المطعم الى دار العروس ليزفونها الى دار العريس وسط انغام الفرقة الموسيقية وزغاريد النسوة ورش الجكليت...
يختفي العروسان بعد ان يغلق باب عش الزوجية عليهم وينصرف الحضور الى ديارهم ويبقى المقربون فقط بأنتظار مايسفر عنه لقاء العرسان الى يفتح العريس باب غرفته ليعلن عن رجولته لتشعر بعدها الوالدتين بالراحة والامان ، في صباح اليوم الاول تحضر والدة العروس ومعها طعام الافطار المسمى ( الصبحية ) فيه مالذ وطاب من الاكلات الشهية التي تتباهى فيها العروس أمام عيالها ويترك العروسين ليستمتعوا باسبوع العسل ، في اليوم السابع تتهيأ النساء من الاهل والاقارب والجيران للحضور الى اسبوع العروس مستصحبين معهم الهدايا للعروسين وتقام لهم وجبة عشاء وتصدح حناجر الحضور بالغناء والرقص والهلاهل ، بعد ان تنتهي ايام العسل التي عادة ماتكون اسبوعين تتململ نساء الدار لتقييم العروس بنظرهم فهي واحدة من اثنين ، اما ( الحمد لله شاطرة وسباعية همزين ماطلعت على اهلها ) او ( فاهية ومابيها خير وحظ ولدنا مصخم ) متناسين انهم من اختارها وليس المكرود ابنهم ، في الشهر الثاني والثالث تبدأ معاناة العروس الاسيرة فاذا لم تحبل تبدأ التكهنات التي عادة ماتكون متشائمة مثل ( يمكن بطنها يابسة ) ( بس لاتطلع على فلانة قريبتها الله يستر ) والعروس لاتعرف الاجابة ، لاأحب ان اطيل عليكم نهاية القصة حلين لاثالث لهما أما ان يقبل الزوجان بالامر الواقع وهو ( العزل ) اي يعزل الزوجان عن اهل الدار بطبخهما ويغلق باب غرفتهم عليهم أو التهيؤ لمغادرة الدار غير مأسوف عليهم وعلى الزوجين القبول بالهزيمة بروح رياضية لتعود الام بعد ان يسألها الاخرون عن السبب بالقول (حظ ابني أكشر من أخذ هالمكموعة ) اما الوالد وابنه فهما آخر من يعلم من كيد النساء ان كيدهن عظيم ...
في الختام احب ان اوضح ان مادونته اعلاه من مشاهدات عن واقع المجتمع البغدادي هو ليس حقيقة كل العراقيات الماجدات بل القسم القليل منه وكما معروف ان سرد الاحداث كان في الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي حين كانت الامية منتشرة بشكل كبير في العراق والمجتمعات منغلقة على نفسها كما ان قسم من الكلام كان لتلطيف الحديث ولانقصد منه الاساءة الى امهاتنا الافاضل فعذرا والف عذر لمن ضحينا وأفنين اعمارهن لتربيتنا ولولاهن لما وصلنا الى مانحن فيه من نعم الله الكريم ...
الگاردينيا: للراغبين الأطلاع على الحلقة الثالثة/ النقر على الرابط أدناه:
http://www.algardenia.com/tarfiya/menouats/5056-23-06-2013.html
937 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع