من عجائب الأمن أن يعقد مؤتمر القمة العربية في الخرطوم عام 2006، من دون أدنى قدر معقول من ترتيبات الأمن، ولا يحدث اختراق يذكر.
فكل الطرقات كانت سالكة إلى مكان المؤتمر، ليس أمام التنظيمات الإرهابية المتشددة فحسب، والتي تعرف كيف تخطط وكيف تنفذ، بل أمام من يعجبه أن يقوم بفعل ما! وفي كل المرات التي تنقلت فيها من دور الضيافة الرئاسية المشيدة بشكل مميز، إلى مقر المؤتمر، لم أصادف حاجزا مهما، ولم ألمس وجود خطة أمنية تؤمن حماية عن بعد. ففكرت في احتمالين هما:
أن تتعرض القمة لكارثة أمنية، أو أن تمر بسلام «بفضل علاقات تفاهم خفي» بين النظام وقوى يرد اسمها بين القوى المتشددة والإرهابية. وفضلا عن الموقف السياسي، كان عدم حضور زعماء مهمين ضروريا. منذ نحو عشرين عاما واسم السودان موضوع على لائحة الإرهاب الأميركية، وفي 1998 دمر مصنع «الشفاء» للأدوية بصواريخ كروز موجهة من الأسطول الأميركي في البحر الأحمر. وعبرت قوى معارضة سودانية في حينه عن قلقها من تعريض النظام لمصالح الأمة للخطر، بشكوك لم تتوقف عند هذا المصنع، بل تشمل منشآت أخرى، ملقية بمسؤولية الحدث على حكم البشير. وفي 2009 هاجمت طائرات إسرائيلية قافلة سيارات متجهة إلى شمال السودان، قيل إنها محملة بأسلحة إيرانية.
ولم تتفاعل الدول العربية مع نبأ الغارة الأخيرة على مصنع الأسلحة السوداني، على الرغم مما قيل عن كونه مصنع أسلحة تقليدية غير محرمة دوليا، وهو الأرجح. فلماذا هوجم المصنع؟ ولماذا لم تتفاعل الحكومات والجماهير العربية مع الحدث؟
قصة التحرك الجماهيري أصبحت من تراث الماضي. فثورة كبرياء المظلومين السورية، لم تحرك مشاعر الجماهير. ولولا الخليج والأردن وتركيا وربما ليبيا، لأصبح من حق السوريين تمزيق الهويتين العربية والإسلامية، وحمل هوية الأمة السورية! فهل تتحرك الجماهير من أجل سلاح البشير؟ فمصنع الأسلحة بيد حاكم لن ينطق بكلمة حق واحدة عن الثورة السورية، وتسببت سياساته القمعية في تقسيم السودان، وتحويل الاختلاف بين أبناء الوطن إلى حروب متناثرة في دارفور وغيرها. ومع هذا كله يظهر راقصا على أنغام الجياع والمشردين وهجرة العقول الثقافية المميزة.
وعلى هامش قمة الخرطوم، أقيمت دعوة عشاء مفتوحة للوفود في حديقة مفتوحة، في جو لم يخلُ من غبار خفيف عالق. وكلما جاء مضيف يسأل عن حاجة قلت له: «خليهم يعيدون أغنية المامبو السوداني»، وفعلا كرروها مشكورين عدة مرات. غير أن هذا شيء ومحاولة الضحك على عقول البسطاء ومشاعرهم برقص البشير وسط الجماهير على أنغام الجوع والتقسيم شيء آخر.
درس معنا في كلية الأركان ضباط سودانيون قبل مجيء البشير بأكثر من عقد، لمسنا فيهم ذكاء ليس غريبا، مقارنة بالعدد الكبير من المثقفين وأساتذة اللغة. وأعدم عدد من الضباط بتهمة التآمر على حكم البشير، ومنهم من درسوا في العراق، الذي قدم دعما عسكريا للسودان في عقد الثمانينات. وشارك السودان في حرب السنوات الثماني، بإرسال وحدات من المتطوعين قاتلوا إلى جانب العراقيين في منطقة العمليات الجنوبية. لكن، لا الثقافة العامة ولا الكفاءة العسكرية حافظتا على وحدة السودان ولا على أمنه واستقراره، لأن سياسات البشير الخاطئة ومواقفه المضطربة، حالت دون الاستفادة من الطاقات واستهدفت رموزها. وبدلا من أن يعمل البشير طيلة أكثر من عقدين من الحكم، لتحقيق طموح تحويل السودان إلى سلة غذاء أفريقيا، واستقطاب مليارات النفط العربي لتحقيق تنمية البلد، بتعاون عربي ودولي مفتوح، اختار السباحة عكس التيار، تحت شعارات زائفة وأدوار تآمر مكشوفة، تتقاطع سلبا مع تطلعات الأمة التي ينتمي إليها السودان، حتى جعل صورة حكومة دولة الجنوب أكثر قبولا في نظر الدول العربية، مقارنة بالموقف الحكومي الشمالي.
وعندما تواصل الأنظمة قمع شعوبها على شاكلة بشار، والتجاوز على هويتها ومبادئها، لا تجد الشعوب طريقا غير التصدي، ومهما حاول البشير قمع الحراك الشعبي والتهرب من الدعاوى الدولية، سيأخذ الشعب طريقه، ومن المستبعد أن تكرر القوات المسلحة تجربة الواقفين إلى جانب سلطة بشار، بل ستذكر سوار الذهب، والتحاق الضباط والجنود بكتائب الجيش الحر. أما مصانع السلاح وغيرها فتستحق وقفة عربية عندما تسخر لحماية أمن الناس، لا لتسهيل طعن الأمة في ظهرها.
1078 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع