ترامب ومأزق الفكر السياسي الأمريكي: من ديمقراطية الأفكار إلى ديمقراطية الصورة .

د. أنور الجاف

ترامب ومأزق الفكر السياسي الأمريكي: من ديمقراطية الأفكار إلى ديمقراطية الصورة .

أولًا: ترامب ليس “مفكّرًا سياسيًا” بالمعنى الفلسفي

الفكر السياسي في الولايات المتحدة له تقليد فلسفي عريق يمتد من توماس جيفرسون (Thomas Jefferson) إلى جون رولز (John Rawls)، مرورًا بمدرسة “البراغماتية الأمريكية” مع وليم جيمس (William James) وجون ديوي (John Dewey). هؤلاء قدّموا نظريات حول العدالة، والدولة، والمواطنة، والعقد الاجتماعي، بينما ترامب لم يقدّم نظرية أو أطروحة فكرية مكتوبة أو ممنهجة، بل تحرّك ضمن منطق “الصفقة” (Deal-making logic)، الذي ينتمي إلى عالم المال والإدارة لا الفلسفة أو الفكر السياسي.
تصريحاته الارتجالية في المنابر أو على منصات التواصل ليست نتاج تفكيرٍ فلسفي منظم، بل تعبير عن “ثقافة السوق” حين تتغوّل على السياسة.

ثانيًا: ترامب ظاهرة سياسية - اجتماعية لا فكرية

ترامب يمكن وصفه بأنه ظاهرة اجتماعية سياسية تعبّر عن انحدار الطبقة الوسطى الأمريكية، وتمرد الريف والبيض المحافظين على النخب الليبرالية في الساحلَين الشرقي والغربي.
هو لسان الغضب الشعبي الأمريكي، وليس عقل الفلسفة الأمريكية.
بهذا المعنى، فإن دراسة خطابه لا تقع في نطاق “الفكر السياسي النظري”، بل ضمن علم النفس السياسي والسوسيولوجيا الثقافية، فهو استخدم اللغة الشعبوية الانفعالية ليحوّل السياسة إلى عرضٍ تلفزيوني مستمرّ، لا إلى حوار فكري.

ثالثًا: التناقضات في خطابه ليست ضعفًا بل إستراتيجية

حين يقول “سنفتح أبواب الجحيم” ثم يتراجع، أو يهدّد الصين ثم يصافح رئيسها، أو يهاجم الناتو ثم يمتدحه، فذلك لا يُفسَّر بالسطحية فقط. بل هو أسلوب متعمّد قائم على الإرباك الإستراتيجي (Strategic Chaos) الذي يعيد تعريف “القيادة القوية” عند جمهوره.
إنّه يروّج لصورة “الرجل الذي لا يمكن التنبؤ به”، وهي صورة مثالية في ثقافة الأمن الأمريكي التي ترى الردع في “الجنون المحسوب”.

رابعًا: ترامب وفلسفة “اللاعقلانية المربحة”

إذا جاز التعبير، فإن “فلسفة ترامب” هي اللاعقلانية المربحة؛ أي تحويل كل انفعال إلى صفقة، وكل أزمة إلى رصيدٍ انتخابي.
هو يعبّر عن انفصال الخطاب السياسي عن البنية الفكرية التي ميّزت الرؤساء السابقين من كينيدي (John F. Kennedy) إلى أوباما (Barack Obama).
في عهده أصبحت “التغريدة” بديلًا عن “البيان السياسي”، و”التهديد” أداة تفاوض، و”الرقص أمام الجماهير” صورة جديدة لسلطةٍ تتغذّى على المشهد لا المبدأ.

خامسًا: دلالته التاريخية

ترامب لا يُدرَس بوصفه “مفكرًا”، بل كمرآة لأزمة الديمقراطية الليبرالية الغربية، حيث تحوّل الناخب من الباحث عن البرنامج السياسي إلى الباحث عن “الزعيم الاستعراضي”.
فهو يُجسّد انتقال أمريكا من “ديمقراطية الأفكار” إلى “ديمقراطية الصورة”، ومن “العقل الجمهوري” إلى “الغرائز الجماهيرية”.
لذلك تُدرَس أقواله، لا لأنها فلسفة، بل لأنها وثائق في تاريخ الانحطاط الخطابي للسياسة الأمريكية.

سادسًا: مفارقة “السلام” في خطاب ترامب وجائزة نوبل .
حين تحدث ترامب مرارًا عن استحقاقه جائزة نوبل للسلام، كان العالم يعيش أعتى موجات الصراع؛ من أوكرانيا وروسيا، إلى الشرق الأوسط وكوريا الشمالية. المفارقة أن أكثر الشخصيات تصعيدًا للخطاب العدواني والتهديد العسكري في السياسة الأمريكية الحديثة، كان هو نفسه من يطالب العالم بالاعتراف بـ”جهوده من أجل السلام”!

لكنّ ما قصده ترامب بالسلام لم يكن المفهوم الكانطي القائم على “السلام الدائم” و”عقلانية القانون الدولي”، بل كان سلام القوة (Peace through Strength) الذي يرثه من المدرسة الريغانية (Reaganian) المحافظة — أي أن السلام يتحقق بفرض الهيمنة لا بالاتفاق، وبالردع لا بالحوار.

وهكذا أصبح “السلام” عند ترامب صفقة سياسية مشروطة بالولاء والمردود المالي: من اتفاقات أبراهام في الشرق الأوسط، إلى صفقات السلاح مع السعودية، إلى تهديداته لحلفائه الأوروبيين. كان يرى أن السلام لا يُمنح، بل يُشترى، وأنّ جائزة نوبل يجب أن تُقاس بعدد الصفقات لا بعدد الأرواح التي نجت.

وفي خضمّ الاقتتال الساخن في العالم، بدا أن حديثه عن “السلام” لم يكن سوى إعادة تدوير لمفهوم الهيمنة بلغةٍ تجاريةٍ مُغلّفةٍ بشعاراتٍ إنسانية.
فهو لم يكن يسعى إلى “نزع فتيل الحروب” بل إلى إعادة تسعيرها بما يخدم المصالح الأمريكية، إذ رأى أن السلم لا يعني نهاية الصراع، بل إدارة دائمة له بما يضمن التفوّق الأمريكي.

وخلاصة القول: دونالد ترامب ليس فيلسوفًا سياسيًا، بل ظاهرة ناطقة باسم مرحلة ما بعد الحقيقة (Post-truth Era)، حيث تختلط السياسة بالتسويق، والزعامة بالشعبوية، والهيبة بالهزل.
إنه ليس ابن الفكر الأمريكي، بل ابن الإعلام الأمريكي، الذي جعل من الجدل سلعة، ومن الاستفزاز أيديولوجيا.
فمن يدرسه كـ”مفكر” يضلّ، ومن يدرسه كـ”تحوّل ثقافي” يصيب الحقيقة في عمقها.

د. أنور الجاف
باحث اكاديمي

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

666 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع