
عبد يونس لافي
الحلقة الخامسة من (الرِّحلةِ الرائدةِ للعراقيِّ الموصليِّ المسيحيِّ الكلدانيِّ القس إلياس حنا، من بغداد الى أمريكا قبل اكثر من 350 سنة)
عِبْرَ حقولٍ واسعةٍ من القمحِ والذرةِ وقصبِ السُّكَّر، مارًّا بمعامل الأقمشةِ الصوفيةِ الفاخرة، وصل إلياس إلى (ليما) فأقام عند رئيس محكمة التفتيش پيدرو دي لَكَنْتيرا
(Pedro de la Cantera) الذي أقرضه 1400 قطعةٍ من ثمانية في پورتوبيلو،
الميناءِ الساحِلِيِّ الجميل في پَنَما، ولم يخبرْ بذلك احدًا، وقد اعادها إلياسُ إليه الآن
بفائدة قدرها 40 بالمائة، المتعارفِ عليها في ليما آنذاك.
بعد أن أخذ إلياس قِسطًا من الراحةِ بعد سفرته المتعِبة، قدَّم توصياتٍ الى نائبِ الملك
بالتاسار دي لَكْويڤا انريكيز (Baltasar de la Cueva Enríquez)، الابن الثاني
لحاكم البوكركي (Albuquerque)، المدينةِ الأقدم في نيومكسيكو (New Mexico).
"لقد استقبلني بحفاوةٍ كبيرة، ووعدني بأنَّه سيساعدني بأيِّ طريقة ممكنة"، يقول لك إلياس.
اصبح إلياس صديقًا لنائب الملك وزوجته، وعندما مرض جرّاء التعب من السفر، ارسل له مستفسرًا عن صحته مرتين كلَّ يوم، وقدم له الحلوى.
عند قراءة مثل هذه المذكرات، ينبغي التوقُّفُ عند السِّماتِ التي كان يتمتَّع بها إلياس،
وكيف استطاع ان يكون محطَّ احْترامٍ لدى معظم من تعامل معهم، إنْ لم نقل جميعهم،
وكيف كوَّن صداقاتٍ حميمةً مع الأساقفةِ بصفته الدينية الكاثوليكية، والزعماء
العلمانيين في مناطق امريكا الجنوبية التي زارها. لا شك إنَّ لهذا الرجل شخصيةً
متميزةً محبوبةً مثقفة، تستطيع التَّكيُّفَ لظروفٍ لم يألفْها من قبلُ في بلده العراق.
مما ينقله إلياس عن حال سكان قارة امريكا الجنوبية قبل وصول الإسبان اليها،
أنَّهم لم يكونوا ليعرفوا الإله الحقيقي، وبعضهم يعبد الاصنامَ او الشمسَ او القمرَ
او النجوم، ولم يعرفوا القراءةَ ولا الكتابةَ، حيث لم تكن لهم أبْجديَّةٌ خاصةٌ بهم،
وكانوا اذا ما ارادوا شيئًا من رؤسائِهم عبَّروا عنه بالرُّسومات والصور على قطع
القماش. ولم يمتلكوا اسلحةً غير الرماحِ والأقواسِ ومقاليعِ رمي الحجارة، ولم يكُنْ
لديهم حيواناتٌ اليفة، كالخيل والبغال والحمير او الثيران والاغنام والبقر والدجاح،
وإنما كان لديهم حيوانٌ يًشْبِهُ الجمل، ولكنه اصغر حجمًا كحجم الحمار، بسنامٍ على
صدره، يستخدمونه لحمل الاثقال، ويأكلون لحمه. اما طاقة هذا الحيوانُ فضئيلةٌ،
ويتعب بسرعة، وينام ويُرغي ويبصق على اصحابه.
وكان اذا مات احدهم، عملوا له قبرًا يرتفع ذراعين، ويمتدُّ بطول ثلاثةِ اذرع،
ويدفنون مع الميت، ادواتِ تجارته، مع نوعٍ من النبيذ المصنوع من الدُّخْن.
قضى إلياس عامًا في ليما في منزل السيد پيدرو دي لَكَنْتيرا الذي تكفَّل بجميع نفقاته
وكان له بذلك فضلٌ عظيمُ أسداه إلى إلياس، اذ أنَّ المعيشة كانت باهضةً في ليما
وتُكلِّفُ كثيرا.
كان إلياس شغوفًا بالاطِّلاع على كلٍّ شيء، فحرص على زيارة مناجم الزئبق في
هونكاڤَلِكا (Huancavelica)، ومناجمِ الفضة في پوتوسي (Potosi) ، مدينة
المناجم التأريخية في بوليڤيا (Bolivia)، وقد تم له ذلك بفضلِ رسائلِ التوصيةِ
من صديقه نائب الملك.
يقول انه زار منجمَ الزئبقِ معيَّةَ حاكمِ هونكاڤَلِكا، واطَّلع على حجمه الكبير، وكيف
كان العمال يقطعون الخامَ ويُحضرونه الى السطح، ثم أوضحوا عملية استخراح
الزئبق من الخام بالتفصيل، وكيف يستخدمونه في تنقية الفضة. وقد تناول الياس
ذلك بالتفصيل في تقريره الشامل.
بعد زيارته لمناجم الزئبق، واطِّلاعِه على ما يجري فيها، يسافر الياس الى
كوزكو (Cuzco)، وهي مدينةٌ تقع جنوبَ شرقي پيرو (Peru)، عبر الجسر
المعلق على نهر اپوريمَك (Apurimac). كان جسرًا ضيِّقًا جدًّا، عرضه قد ينقص
او يزيد قليلًا عن ذراع، اما طوله فعشرون ذراعًا نُسِجَ من جذور الاشجار وأغصانها.
يقول الياس، عبرنا الجسر على حذرٍ والخوفُ يملأنا، بعد ان أفرغنا أحمالَنا
عن ظهور البغال، وحملها الهنود على ظهورهم، حتى عبروا الجسر فُرادى
الى الضفة الثانية من النهر.
لقد كانوا يسوقون البغالَ سوقًا، ويُسَرِّعونَها بالضرب، فاذا تعثَّر البغلُ وانزلقت
رجله بين اخشاب الجسر المتقاطعة، رفعوا بعض الاخشاب المجاورة، وجعلوا
البغلَ يسقط، ويقطع النهر سباحةً الى الجانب الاخر من النهر.
يقول وقد مررنا بمزارعَ واسعةٍ للسكر في ابانكاي (Abancay)، وهي مدينة
في احدى مقاطعات پيرو، حتى وصلنا كوزكو. والآن نتوقف هنا لنلتقي في
الحلقة السادسة من هذه الرحلة، إن شاء الله.

824 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع