رهان تركي على قيادة عراقية أقل تأدلجا وأكثر براغماتية
بوادر التراجع النسبي للدور الإقليمي لإيران والظهور التدريجي لقيادة عراقية أقل ارتهانا للاعتبارات الأيديولوجية وأكثر براغماتية في نسج العلاقات الخارجية للعراق يشرّعان لتركيا رفع سقف طموحاتها في البلد ويفسحان أمامها مجال تأسيس نفوذ راسخ لها على أرضه من بوابة التعاون الاقتصادي المركّز على قطاعات حيوية، على رأسها النقل والطاقة، مثلما يكشف عن ذلك بشكل صريح الخطاب الرسمي لأنقرة.
العرب/بغداد- تظهر تركيا طموحا متزايدا للذهاب بعيدا بعلاقاتها المتطورة بشكل متسارع مع العراق لتتجاوز ما تمّ تحقيقه إلى حدّ الآن من تعاون اقتصادي وتنموي تمخّض عنه مشروع طريق التنمية ووفاق بشأن الملف الأمني لاحت من ورائه بوادر حسم لملف الحرب المتواصلة منذ أربعة عقود ضدّ حزب العمّال الكردستاني.
وتلمح القيادة التركية وجود فرصة لتثبيت نفوذ راسخ لبلادها داخل العراق في ظل لحظة الضعف والتراجع الإيرانييْن في البلد والإقليم ككل، جنبا إلى جنب مع الصعود التدريجي لقيادة عراقية أقلّ ارتهانا بالاعتبارات الأيديولوجية وأكثر براغماتية، على غرار رئيس الوزراء محمّد شياع السوداني الذي لم يمنعه انتماؤه إلى العائلة السياسية الشيعية العراقية القريبة تقليديا من طهران، بسبب وحدة الانتماء الطائفي معها، من البحث عن شركاء مفيدين لبلاده في إعادة تحريك عجلة التنمية، وذلك على أسس مصلحية بعيدة عن الاعتبارات الأيديولوجية والطائفية.
وتشمل الطموحات التركية في العراق بشكل رئيسي الوصول إلى مقدّراته الضخمة في مجال الطاقة الذي ينطوي على إمكانيات كبيرة للتوسّع والتطوير ويمنح فرصا كثيرة للاستثمار. وعبّر عن هذا الطموح بشكل صريح وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي ألب أرسلان بيرقدار بكشفه مؤخّرا عن إرسال أنقرة مسودة اتفاقية جديدة بشأن خط أنابيب النفط الخام بين العراق وتركيا إلى بغداد، معتبرا أن الخط لديه إمكانات تجارية تصل إلى أربعين مليار دولار إذا تم تشغيله بكامل طاقته.
ولا ينطلق ارتفاع سقف المطامح التركية في العراق من فراغ بل يستند إلى خطوات عملية في مجال تطوير التعاون التنموي والاقتصادي تمّ قطعها إلى حدّ ويتمثّل أبرزها في التوافق على إنجاز طريق التنمية.
ويربط الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مشاركة بلاده في إنجاز الطريق، الذي تشارك في إنجازه أيضا الإمارات وقطر، بغايات ومطامح إستراتيجية قال إن بلاده ستحققها من خلال المشروع. وعبّر عن ذلك في كلمة ألقاها في وقت سابق أمام منتدى ممرات النقل العالمية وقال فيها إنّ بلاده ستعمل على تحويل الإمكانات الجيوسياسية إلى ميزة اقتصادية عبر الطريق الذي سيمتد من جنوب العراق إلى الحدود التركية ومنها إلى ساحل المتوسط، ما سيجعل تركيا مفترق طرق بين منطقة الخليج وأوروبا.
وتركّز السياسات التركية في عهد أردوغان على تثبيت مكانة البلد كممر لتدفق السلع والأفراد بين مناطق متباعدة في العالم، وهو توجّه يخدم طموحات القيادة الحالية في مد النفوذ وتوسيعه ومنافسة قوى تقليدية في ذلك، وهو ما ينطبق على مشروع طريق التنمية الذي يعتبر مدخلا مناسبا لتثبيت النفوذ التركي في العراق الذي عرف خلال العقدين الأخيرين كموطن رئيسي للنفوذ الإيراني.
وتراهن تركيا في محاولتها اقتحام مجال الطاقة، وتحديدا قطاع النفط، على إقناع العراقيين بتوفير ممر آمن للخام المنتج في بلدهم بعيدا عن التوتّرات ومثالها الأبرز الحرب الإيرانية – الإسرائيلية الأخيرة التي خيّم بسببها شبح إغلاق مضيق هرمز.
وشرح الوزير بيرقدار أمام تجمّع للصحافيين أن الاتفاق بشأن خط نقل النفط الخام بين العراق وتركيا تم في عام 1973، مضيفا أن بناء الخط اكتمل في عام 1976، لكن الأنبوب الذي تبلغ طاقته 1.5 مليون برميل يوميا لم يتم استخدامه بكامل طاقته منذ ما يقرب من خمسين عاما.
وأكد بيرقدار على أهمية خطوط أنابيب النفط الخام في الإمدادات العالمية، قائلا “نقول للعراق أنتم تصدرون 4 ملايين برميل نفط يوميا. ويمر كل هذا عبر البصرة. أما هنا، فيوجد طريق مختلف لمليون ونصف مليون برميل. ويمكنكم بسهولة إيصال ما يقرب من 40 في المئة من نفطكم إلى العالم عبر طريق مختلف. بل يمكنكم الوصول إلى أسواق ومناطق جغرافية مختلفة مثل أوروبا والبحر المتوسط.”
وأوضح أن الخطوة القانونية اللازمة تم اتخاذها، مشيرا إلى أن اتفاقية خط الأنابيب التي تنتهي في يوليو 2026 يتم تمديدها تلقائيا ما لم يقدم أحد الطرفين إشعارا قبل عام واحد.
وأردف قائلا “نعم، كان بإمكاننا تمديد الاتفاق ولكن أي نوع من الاتفاقيات كنا سنمددها.. كنا سنمدد اتفاقية لم تصل إلى سعة الخط. وللأسف، كنا سنمدد اتفاقية وضعتنا في مأزق قانوني منذ عام 2014، وكنا سنمدد اتفاقية من شأنها أن تسبب نزاعا قانونيا بيننا.” وتابع “لذلك قلنا هذه الاتفاقية ليست مفيدة تجاريا أو قانونيا. دعونا نقصّر هذا الأمر. ولكن بعد ذلك مباشرة أرسلتُ رسالة إلى نظيري العراقي وزير النفط مرفقة بمسودة اتفاقنا الجديد.”
وأضاف “قلنا نريد الآن العمل على هذا الأمر من خلال اتفاقية بشأن خط أنابيب العراق – تركيا. إن جوهر تلك الاتفاقية هو: دعونا نستغل كامل طاقة هذا الخط، متجنبين أي نزاعات قانونية بيننا. ولنسمح بتدفق 1.5 مليون برميل من النفط عبره. فهذا هو هدفنا. علاوة على ذلك، ناقشنا مشروع طريق التنمية ومن الممكن تحويله إلى طريق للطاقة. واليوم يمثل 1.5 مليون برميل استثمارا سنويا يقارب أربعين مليار دولار.”
وردا على سؤال عن تمديد خط الأنابيب إلى جنوب العراق قال بيرقدار “للوصول إلى سعة 1.5 مليون برميل يوميا، يجب أن يمتد هذا الخط جنوبا. لأنه لا يمكن ملؤه إلا للنصف بالإنتاج في الشمال، بما في ذلك في كركوك.”
وتمثل مناطق جنوب العراق، والبصرة تحديدا، أهم منابع النفط في البلد، لكنها تمثّل أيضا موطن المكون الشيعي العراقي وبالتالي معقل الأحزاب والفصائل الشيعية المسلحة الممسكة بشكل رئيسي بزمام السلطة. ولهذا السبب سيمثّل امتداد النفوذ الاقتصادي التركي إلى تلك المناطق اقتحاما للمعقل الرئيسي للنفوذ الإيراني الذي ما زال قائما مع وجود فرص لتراجعه بسبب ما تتعرّض له إيران من ضغوط دولية، وأميركية على وجه التحديد، جنبا إلى جنب مع توسع دائرة الغضب والامتعاض لدى شرائح متزايدة من العراقيين، بمن في ذلك أبناء المكون الشيعي أنفسهم، من سياسات طهران وحلفائها المحليين في بلدهم.
593 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع