أيام زمان الجزء ...٦١ - البردي /١
يقترن ذكر أوراق البردي دائما بذكر مصر القديمة، حيث أن المصريين القدماء كانوا أول من اهتدى إلى صنع صحائف للكتابة من اللباب الداخلي اللزج لقصب البردي، الذي ينمو في مصر ضمن مساحات شاسعة، من مستنقعات الدلتا على وجه الخصوص، وفي بعض جهات من إقليم الفيوم منذ عصور بالغة القدم.
عندما نتذكر أوراق البردي من حيث مصدر مهم، من مصادر المعرفة التاريخية والتراث الحضاري القديم، يتبادر إلى الذهن على الفور عصور التاريخ المصري القديم، منذ الدولة الفرعونية القديمة، بل ربما منذ عصر بداية الآسرات حتى بداية العصر الإسلامي، أي على مدى زمني يزيد على الأربعة الأف من السنين، تميز عصر تكوين الآسرات بميزتين، أولهما أن ذلك العصر هو الذي بدأ فيه المصري مرحلة التوحيد السياسي، ثانيهما أنه العصر الذي بدأت فيه عملية تدوين اللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية)، من اضطر المصريين القدماء من إيجاد وسيلة للكتابة.
ويصنع الورق من نبات اسمه البردي، الذي ينمو في الدلتا وعلى ضفاف النيل والترع، وأول استخدام لورق البردي كان في مصر القديمة، وهو نبات طويل من جنس السُعد تمتد سيقانه إلى أعلى، وهي ذات مقطع مثلث الشكل، وأزهاره خيمية الشكل ويرتفع نبات البردي من خمسة إلى تسعة أمتار.
النبات ينمو في أنحاء قليلة متفرقة من العالم القديم غير مصر، وان شعوبا غير المصريين قد عرفت استخدام هذا النبات في أغراض أخرى، غير صناعة أوراق الكتابة، (ومن هؤلاء أهل صقلية وفلسطين وشرقي السودان)، والمصريين وحدهم هم الذين ابتكروا هذه الأوراق واحتكروها وجعلوا منها سلعة رائجة للتصدير إلى العالم الخارجي ردحا طويلا من الزمان، وانتقلت بعدها في العصور القديمة إلى فلسطين وصقلية، واستخدم الورق في كل نواحي مناطق البحر المتوسط، وبعض مناطق أوروبا وجنوب غربي آسيا.
الفافير أو ورق البردي الذي استخدمه المصريين القدامة لكتابة الهيروغليفية، وتسجيل أحداثهم وعلومهم وآدابهم، والفافير معرب اليونانية المنقولة من المصرية (فا-فر-عا) وهو إضافة إلى الفرعون، أي ما هو ملكي فقد كان صنعه حكرا على الملوك.
قصة الاهتمام بالبريات العربية تأتي أولى الإشارات حولها، فيما حدث في عام 1824م، حينما عثر مجموعة من الفلاحين في منطقة سقارة التابعة لمحافظة الجيزة بمصر، على إبريق صغير من الفخار وجدوا بداخله برديتان عربيتان، وصلتا بطريق أو بآخر إلى القنصل الفرنسي في القاهرة (برناردو دروفيتي)، الذي سلمهما بدوره إلى أحد المهتمين بالآثار الإسلامية وهو (سلفستر دي ساسي،) الذي اعتنى بها مع برديات أخرى وصلت إليه من القنصل الإنجليزي (هنري ست)، كل هذا تحت عناية الملك لويس الثامن عشر.
وتلا ذلك عثور الفلاحين على لفائف البردي، التي اشتراها الرايخ الألماني (ج ترافرس) بالقاهرة، ولعب دوراً كبيراً في تهريب وسرقة هذه البرديات إلى متحف اللوفر بألمانيا، وتلا هذه العملية، عمليات أخرى من التهريب للفائف البردي التي عثر عليها في عدة أماكن من مصر، وكانت هذه هي البدايات الأولى للاهتمام بالبرديات العربية.
تقول الدكتورة فرخندة حسن، في كتابها "التكنولوجيا المصرية القديمة "«حاول المصريون القدماء الوصول إلى طريقة أسهل تمكنهم من تسجيل معالم حضارتهم، وهو ما كان الحافز للذي دفع بهم ليس فقط إلى اختراع الورق من نبات البردي المنتشر بدرجة في الدلتا، بل أيضًا إلى ابتكار العديد من مستلزمات الكتابة وأدواتها».
ورق البردي ابتكره قدماء المصريين، ليدونوا عليه وثائقهم وما وصلوا إليه من رقي حضاري رفيع، وفضل هذا الورق على الحضارة الإنسانية عظيم، فقد حفظ ثروة هائلة من المعارف والعلوم، التي توصل إليها المصريون القدماء وغيرهم، فمن مخطوطات البردي عرف أن المصريين القدماء هم أول من وضع التقويم الشمسي الذي لا يزال متبعة في أرجاء المعمورة، وأنهم أول من ألف برديات في الجراحة والطب الظاهري وبعض قواعد علم الحساب ومبادئ الجبر وهندسة المسطحات والمجسمات مما لم تعرفه أوروبا إلا بعد ذلك ثلاثة آلاف عام. أشهر مجموعات البرديات الفرعونية التي تم اكتشافها: بردية القروي الفصيح، وقصص سنوحي، وبرديات الأناشيد الدينية، وبردية وستكار أو خوفو والسحرة.
وتعتبر بردية "آني" من أشهر البرديات التي تحتوي على كتاب الموتى الفرعوني الشهير، بتعاويذه التي تنتصر للحياة وتقهر الموت، وتؤهل للتمتع بحياة أبدية ليس من ورائها فناء، وصارت بردية آني الآن من أشهر البرديات المعروضة في المتحف البريطاني في لندن، وتعتبر سجلاً حافلاً عن معتقدات المصريين القدماء عن عالم الآخرة.
والبرديات الطبية المصرية هي النصوص القديمة، التي تعطي لمحة عن الإجراءات الطبية وتفاصيل عن الأمراض والتشخيص والعلاج، والذي شمل العلاجات العشبية، الجراحة، والتعاويذ السحرية، يعتقد أن هناك المزيد من البرديات الطبية، ولكن الكثير قد فقد بسبب سرقة القبور.
ولعل البردي قد يساعد على انتشار الكتابة وتطورها، إذ كانت مهنة الكتابة من المهن المرموقة في مصر القديمة، وكان الملوك والأمراء والنبلاء والتجار يستخدمون الكتان لحفظ سجلاتهم وحساباتهم وقراراتهم ووثائقهم. وكثيرا ما كان الآباء يوصون أبناءهم بأن يتعلموا الكتابة لأنها مهنة تضمن لهم المكانة الرفيعة والحياة الرغدة والمركز المرموق في المجتمع، وكانت مكتبة الإسكندرية القديمة التي أحرقها «يوليوس قيصر» تضم نحو ثمانمائة ألف مجلد من ورق البردي، كذلك عرف من أوراق البردي أن المصريين القدماء هم أول من اكتشف القلم والحبر الأسود.
انتشر ورق البردي في العالم القديم انتشاراً واسعاً شمل مصر وسورية واليونان وإيطاليا وسواها واستعمل لكتابة المخطوطات والوثائق وغيرها، ووجدت في مقابر الملوك المصريين أوراق بردى عليها كتابات في أيدي المومياء، ويوجد بعض المومياء لفت أجسامهم بهذا الورق.
وقد عرف الأشوريون ورق البردي وسموه "قصب مصر". وأكد المؤرخ الإغريقي هيرودوتس أن البردي وصل الجزر اليونانية ودعي بالجلد أو الرق، واستعمل في أثينا على نطاق واسع بدءاً من القرن الخامس قبل الميلاد. ووجد إنجيل يوحنا، وهو أول الأناجيل المكتوبة على ورق البردي، وتعود هذه الوثيقة الدينية المهمة جداً إلى القرن الثاني بعد الميلاد، كما وجد دستور أثينا مسجلاً على البردي، واكتشفت بعض محاورات أرسطو على هذا الورق في القرن التاسع عشر ميلادي، توسع استعمال البردي في العهد الروماني، وأصبح يستعمل في صناعة الكتب وفي المراسلات والوثائق القانونية وكذلك في العقود التجارية.
هناك ثمانية أنواع من ورق البردي يتميز بعضها عن بعض نوعية وقياساً، وكان النوع الأفضل يسمى "كارتا هير اتكا" ثم تبدل اسمها إلى "كارتا أوغسطا" تيمناً بالإمبراطور الروماني أغسطس، وتدرجت بعدها أنواع الورق ونوعيته وصولاً إلى النوع الثامن والذي عرف بالورق العادي، وأضيفت في أيام الإمبراطور كلوديوس نوعية تاسعة، ظلت مصر تنتج ورق البردي على نطاق واسع بعد الفتح العربي، ولكن مع ظهور الورق الحديث في القرنين الثامن والتاسع ميلادي انحصر استعمال ورق البردي بشكل كبير، وأصابه غياب شبه تام في القرن العاشر.
لم تقتصر زراعة البردي على مصر وحدها، فقد زرع في إيطاليا قرب بحيرتي تراسيميني وأترويا، وأدخل البردي السوري إلى صقلية، وكان هذا الأخير أطول من البردي المصري، وصنع منه في صقلية الورق الذي كان يصدر
إلى تركيا وأوروبا، ولكن زراعة البردي وتصنيعه اختفى من إيطاليا في القرن السادس عشر.
ويذكر أن الكهنة كانوا يتخذون منه مادة لصنع صنادلهم، كما أن السيقان كانت تستعمل في سد الشقوق بين ألواح المراكب، وكان نبات البردي إلى جانب ذلك يستخدم في بناء الزوارق الشراعية الصغيرة الخفيفة السريعة التي تصلح للملاحة في البرك والمياه الضحلة وفي مياه نهر النيل العميقة على حد سواء.
وقد حظي البردي لدى المصريين القدماء بمكانة رفيعة فزخرفوا معابدهم بنماذج بديعة من أوراقه ومن أزهاره التي تسمى أزهار اللوتس، واتخذت أعمدة المعابد وتيجانها شكل ساق البردي التي تنتهي بزهرة ذات أهداب ناعمة.
ويتناول علم البردي papyrology بمدلوله العام، دراسة كل ما هو مكتوب على أوراق البردي، بأي لغة من اللغات، سواء في ذلك اللغة المصرية القديمة، (بخطوطها الهيروغليفية والهيراطيقية والديموطيقية)، أم اليونانية واللاتينية والقبطية والآرامية والعبرية أم العربية والفارسية…الخ. لكن عندما يذكر علم البردي اليوناني فانه يعنى بالتحديد تلك البرديات المدونة باللغة اليونانية، وهي تغطى فترة من التاريخ المصري تبدأ بدخول الإسكندر مصر وتمتد إلى ما بعد الفتح الإسلامي بنحو قرنين من الزمان.
برديات شتى، لها جميعا طبيعة الوثيقة، وهذه تهم المؤرخين في المقام الأول، ومخصصة بالحديث بصفة كونها مصدر الأول للمعلومات، عن تاريخ مصر في عصر الرومان، ولبيان مدى أهمية الوثائق البردية لتلك الفترة اذا كان المشتغلون بالتاريخ القديم، قد اعتادوا تصنيف مصادرهم التاريخية بوجه عام إلى قسمين هما المصادر الأدبية التي تشمل مؤلفات الكتاب القدامى كالمؤرخين الذين عاصروا الأحداث أو عاشوا وكتبوا عنها بعد فترة من وقوعها، والجغرافيين والرحالة وكتاب التراجم والسير والخطباء و الشعراء و فلاسفة الحكم و السياسة، ثم المصادر الوثائقية التي تضم فروعا هي علوم الأثار، و النقوش والنقود و البردي، وشقفات أثرية مصرية (ostraca )، حيث كان المصريون القدماء يستخدمون أي سطح صالح للكتابة، أو يرسمون عليه. فقد كانت الشقفات من المواد المتوفرة واستغلوها بكثرة، كما استخدموها في كتابة خطاباتهم أحيانا بدلا من أوراق البردي، ومنها ما كتبوا عليه وصفات طبية وكان التلاميذ يستخدمون القطع الحجرية المستوية وشقفات الأوعية الفخارية المكسورة في تعلمهم الكتابة والحساب.
وتتم صناعة ورق البردي بأن تقطع سيقان البردي في المزارع بمدى كبيرة بعناية فائقة حتى لا تصيبها أية كدمات من شأنها أن تضر بلب الساق الذي يعتبر قوام صناعة ورق البردي. ثم تقص الأجزاء السفلى الغليظة من السيقان على طول قدمين ويسلخ لحاؤها حتى ينكشف اللب الناصع البياض الذي يقطع إلى شرائح طويلة ذات سمك واحد تقريبا ويبلغ عرض الشريحة منها نحو أربعة سنتيمترات وهو عرض كتلة اللب. وتجفف هذه الشرائح وتوضع في مستودعات خاصة لاستعمالها في المستقبل. وعند استعمالها في صناعة ورق البردي تنقع مرات عديدة في الماء في أحواض مطلية بالمينا ومصنوعة من الخزف الصيني ثم تخفق بمطرقة خشبية أو توضع على منضدة مغطاة بقماش نظيف وتمرر عليها أسطوانة. وتتكرر عملية النقع والخفق حتى تتشبع الشرائح تماما بالماء. وبهذه الطريقة يمكن التخلص من العناصر العضوية الغريبة غير المرغوب فيها، ومن ثم تبرز الألياف النسيجية من الشرائح التي تغدو جاهزة لعمل صحائف منها. ويقص بعض هذه لشرائح إلى طول أربعين سنتيمتر وبعضها الآخر إلى طول ثلاثين سنتيمترا وهي الأطوال التي كانت عليها صحائف البردي في العصور القديمة.
المصدر
محاضرات في أوراق البردي العربية أدولف جرو همان
الدكتورة فرخندة حسن، "التكنولوجيا المصرية القديمة ".
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/mochtaratt/68552-2025-08-11-19-20-59.html
1125 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع