مدنٌ تائهة بين تحضر الشكل وبداوة الجوهر تكريت نموذجًا: كيف نكسر حلقة العصبية ونبني مجتمعًا مدنيًا؟

إبراهيم فاضل الناصري

مدنٌ تائهة بين تحضر الشكل وبداوة الجوهرتكريت نموذجًا: كيف نكسر حلقة العصبية ونبني مجتمعًا مدنيًا؟

منذ أن بدأت قرانا تتحول إلى مدن وحواضر، ونحن نعيش حالة التباس وعبثية عميقة ومعقدة بين الشكل والمضمون: عمرانٌ يتسع، وأبراجٌ زجاجية ترتفع، وطرقاتٌ عريضة تمتد، وأسواقٌ مكتظة بالبضائع والألوان، لكن خلف هذه الواجهة الحداثية تظل الذهنيات عالقة في ماضٍ قرويّ ريفي بدوي تحكمه روابط القرابة والعشيرة والانتماءات الاثنية الضيقة. ولعل تكريت تمثل صورة جلية لهذا المأزق؛ فهي مدينة عريقة شهدت تحولات عمرانية لافتة في العقود الأخيرة، لكنها ظلت في كثير من مفاصلها أسيرة إرث القرية الذي يطلّ برأسه في السياسة والإدارة والعلاقات الاجتماعية. وهكذا وجدت تكريت، ومعها مدن كثيرة مثلها، نفسها في مأزق تاريخي: عمرانٌ حديث بوعيٍ قديم، وحداثةٌ ظاهرية تختبئ خلفها عصبياتٍ موروثة لا تفارقها.

المفارقة أن المدينة التي يُفترض أن تكون فضاءً جامعًا للمواطنة وملتقىً للتنوع، تحولت في كثير من الأحيان إلى مسرح يُعاد فيه إنتاج القيم ذاتها التي جاءت لتتجاوزها. ففي تكريت مثلًا، ورغم التوسع العمراني وانتشار الجامعات والمستشفيات والمؤسسات، بقيت العصبية القبلية تمارس نفوذها في القرارات والتعيينات وحتى في أبسط تفاصيل الحياة اليومية. بدل أن تكون المدينة بوتقةً لصهر الانتماءات، صارت مرآةً مكبّرة لها. ومن هنا يفرض السؤال نفسه: كيف يمكن لمدينة مثل تكريت، بما تحمل من تاريخ وموقع ودور، أن تتحرر من عباءة العصبية لتغدو فضاءً للمواطنة؟ وكيف يمكن أن تتحول من واجهة متضخمة بالولاءات الضيقة إلى فضاء حيّ للعيش المشترك؟
فالمجتمع في تكريت — على غرار مجتمعاتنا الأخرى — لا يزال محكومًا بمنطق القرابة والقبيلة أكثر مما هو محكوم بروح المواطنة وقانون المدينة. فالمدينة التي وُلدت على أنقاض القرية لم تستطع أن تنفصل عن إرثها، بل حملت معها أعرافها وأثقالها، حتى غدت قريةً متضخمة. ولهذا تبدو المؤسسات، مهما ارتفعت مبانيها وتوسعت أنشطتها، مشدودة إلى منطق الولاءات الضيقة لا إلى روح الكفاءة والمسؤولية العامة. وهذا ما يفسر أن كثيرًا من المستشفيات في تكريت تدار بعقلية الغرف المغلقة، وأن الجامعات تُحكمها الولاءات الشخصية أكثر مما تحكمها المعايير الأكاديمية، وأن الوظائف تُوزع أحيانًا على أساس "النسب" لا الاستحقاق.
إن التحضر في تكريت، كما في غيرها، ليس عملية إنشائية تُقاس بارتفاع الأبراج ولا باتساع الطرق، بل هو عملية قيمية وأخلاقية تعيد صياغة العلاقة بين الفرد والجماعة. فالمجتمع المدني الحق هو الذي يقدّم قيمة الجيرة على العصبية، ويرى في الوطن بيتًا أوسع من العشيرة، ويحتكم إلى القانون باعتباره المظلة التي يستظل بها الجميع على قدم المساواة. غير أن الواقع هناك يكشف عن صورة معكوسة: عمران يزدهر لكن الروح ما تزال مترددة بين القرية والمدينة.
فالمدنية في تكريت لا تعني مجرد الانتقال الجغرافي من الريف إلى الحضر، بل الانتقال من منطق الانتماء الضيق إلى أفق الانتماء الإنساني الواسع. إنها ثورة في الوعي قبل أن تكون تحولًا في العمران؛ انتقال من الجماعة المغلقة إلى المجتمع المفتوح، ومن العصبية العمياء إلى المشاركة العقلانية. ومن دون هذا التحول الجذري ستظل تكريت، شأنها شأن غيرها، عالقة في أزمة "التمدن المؤجل"، حيث تُشيَّد الأبراج لكن النفوس تظل معلّقة عند أبواب القرية.
ولعل المدخل إلى هذا التحول في تكريت يكمن أولًا في إصلاح التعليم، لأنه المعمل الذي يُعاد فيه تشكيل الوعي، لا مجرد فضاء لتكديس المعلومات. فالمناهج يجب أن تزرع في عقول الطلاب فكرة أن تكريت لا تختصرها العشيرة أو القبيلة، بل هي جزء من وطن أكبر وبيت يتسع للجميع. ويكمن ثانيًا في سيادة القانون بوصفه العمود الفقري للحضارة، لأن المواطن في تكريت، كما في أي مكان آخر، لا يشعر بالتحرر إلا حين يحميه القانون بصفته إنسانًا لا تابعًا. وحين يطمئن إلى أن العدالة لا توزّع على أساس العصبية بل على أساس المساواة، يبدأ التحول الحقيقي. ويكمن ثالثًا في إحياء الفضاء المدني، حيث تُستعاد الروابط الاجتماعية على أساس المصلحة العامة عبر الجمعيات الثقافية، والنوادي، والمكتبات، والساحات العامة. تكريت بحاجة إلى مثل هذه المساحات لتعيد تشكيل الوعي بعيدًا عن روابط العصبية الضيقة. كما أن الخطاب الإعلامي المحلي يجب أن يكون أداة لترسيخ قيم المواطنة، لا لتكريس رموز الانتماءات الضيقة. فالإعلام في تكريت، إذا ما احتفى بالكفاءة والإبداع بدل أن يرفع شأن زعماء الطوائف والقبائل، سيتحول إلى رافعة للتحضر بدل أن يكون مرآةً للتخلف.
أما السياسة، فلن تكون فاعلة في تكريت إذا ظل السياسيون يرون أنفسهم شيوخ عشائر أو زعماء طوائف وطرائق. وحده السياسي الذي يتصرّف باعتباره ممثلًا لشعب المدينة وخادمًا للصالح العام يمكن أن يفتح الطريق أمام تحول مدني حقيقي. وحتى العمران ذاته، لا يكتمل بارتفاع البنايات والطرق السريعة، بل بالحدائق التي تمنح الناس فسحة للقاء، وبالمكتبات التي تنير العقول، وبالساحات التي تجمع المختلفين على كلمة سواء. وهذه جميعها ما تزال بحاجة إلى حضور أوسع في تكريت، كي تنبض المدينة بروحها الحقيقية لا بواجهتها فقط.
إن طريق المدنية في تكريت، كما في سواها، طويل وشاق، محفوفٌ بالتضحيات والصبر، ولا يُختصر في وعود انتخابية أو مشاريع استهلاكية عابرة. الحضارة لا تُستورد من وراء البحار ولا تُمنح كمنحة، بل تُبنى لبنةً فوق لبنة، وقيمةً فوق قيمة. وحين يقرر المجتمع أن يُقدّم المواطنة على العصبية، والعدل على المحاباة، والعقل على الغريزة، يكون قد خطا الخطوة الأولى نحو بناء مدينة حقيقية. عندها فقط يمكن لتكريت أن تتحرر من أسر القرية، وتنهض لتبلغ مقام الحضارة الذي يليق بأحلام أبنائها ومستقبلهم.
إن معركتنا مع التخلف في تكريت ليست في شوارع ضيقة ولا في عمرانٍ لم يكتمل بعد، بل في العقول التي لم تتحرر من قيد القرية، وفي القيم التي لم تتجاوز حدود العصبية. فالمدينة ليست حجارةً تُكّدس ولا أبراجًا تُشيَّد، بل وعيٌ يُبنى وقيمٌ تُترسخ، وإرادةٌ جماعية تضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار. وما لم ندرك أن المدنية مشروعٌ طويل النفس يحتاج إلى تربية وتعليم وعدالة وثقافة وسلوك سياسي راشد، فستظل تكريت، ومعها سائر مدننا، مجرد قوالب فارغة يعلوها الغبار مهما تلألأت واجهاتها. أما إذا اخترنا أن نضع الإنسان في قلب مشروعنا الحضاري، وأن نرتقي به من تابعٍ إلى مواطن، ومن ابن قريةٍ إلى ابن مدينة، عندها فقط يمكن أن تتحقق لحظة الانعتاق الكبرى، وتنهض تكريت لتكتب فصلها الخاص في سجل الحضارة الإنسانية.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

920 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

تابعونا على الفيس بوك