مع اقتراب نهاية حكم المرشد الإيراني آية الله علي خامنئي، تطرح تساؤلات جوهرية حول شكل السلطة المستقبلية؛ استمرار التصلب الأيديولوجي أو تحول براغماتي أو صعود حكم استبدادي جديد، مع انعكاسات مباشرة على استقرار الشرق الأوسط والدور الإقليمي لإيران.
العرب/طهران- لأول مرة منذ ما يقارب الأربعين سنة، تواجه إيران احتمال انتقال قيادي وربما تحول في النظام، مع اقتراب نهاية حكم المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي.
وكشفت حرب استمرت 12 يوما في يونيو مع إسرائيل عن نقاط ضعف النظام الإيراني، مع دمار واسع في المنشآت العسكرية والمدن، ما أتاح للولايات المتحدة استخدام قنابل خارقة للتحصينات على المواقع النووية.
ويوضح الباحث كريم سجادبور في تقرير نشرته مجلة “فورين أفيرز” أن المواجهة أظهرت التفاوت الكبير بين الخطاب الثوري لطهران وقدراتها المحدودة، وعكست فقدان السيطرة على المجال الجوي وضعف النفوذ الإقليمي.
وبعد توقف القتال، خرج خامنئي لإعلان النصر بنبرة توتر، في محاولة لإظهار القوة، لكنها أبرزت هشاشة قيادته.
ومع اقتراب نهاية حكم خامنئي يتساءل المحللون عن مصير النظام الثيوقراطي الذي يقوده منذ 1989: هل سيصمد، أم سيتحول، أم سينهار، وما نوع النظام الذي قد يحل محله؟
وحولت ثورة 1979 إيران من نظام ملكي متحالف مع الغرب إلى ثيوقراطية إسلامية، ما جعلها قوة إقليمية مؤثرة على الأمن في الشرق الأوسط، ويعد تحديد هوية خليفة خامنئي مسألة حاسمة.
وخلال العامين الماضيين، منذ هجوم حماس على إسرائيل في أكتوبر 2023، بدأت إسرائيل والولايات المتحدة تفكيك مشروع خامنئي تدريجيا.
وقُتل العديد من حلفائه العسكريين والسياسيين، وتضرر وكلاؤه الإقليميون، وأصبح البرنامج النووي الإيراني في حالة خراب، ما يعكس هشاشة القوة الإيرانية.
وسعت طهران لتقديم هزيمتها كدعوة للوحدة الوطنية، لكن المشاكل اليومية لا تزال مستمرة، إذ يعاني اقتصاد البلاد من العقوبات، وضعف العملة، وانخفاض قوة جواز السفر، وقيود الإنترنت، وتلوث البيئة.
وتعكس شعارات النظام الثابتة، وتحديدا “الموت لأميركا” و”الموت لإسرائيل”، تركيزه على التحدي وليس التنمية، فيما تؤثر القيود اليومية مثل انقطاع الكهرباء وترشيد المياه على حياة المواطنين. وحتى الحجاب الإلزامي، رمز الثورة، يفقد تأثيره أمام تحدي النساء للقيود الاجتماعية.
ويستند تاريخ حكم خامنئي إلى ركيزتين: الالتزام بالمُثل الثورية ورفض الإصلاح السياسي. ويرى خامنئي أن أي تخفيف للأيديولوجيا يهدد الجمهورية الإسلامية، ويرفض تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة. ومع تقدمه في السن ووضعه المتأزم تبدو إيران عالقة بين التراجع التدريجي واضطرابات محتملة.
وقد يفضي رحيله إلى عدة سيناريوهات؛ استبداد متشكك كما في روسيا، أو تحول نحو القومية البراغماتية كما في الصين بعد ماو، أو قمع وعزلة على غرار كوريا الشمالية، أو سيطرة عسكرية كما في باكستان، أو ربما تطور نحو حكم تمثيلي محدود، مستمد من روح الثورة الدستورية عام 1906.
ومن القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، فقدت إيران أراضيها وتعرضت للانقسامات والتدخلات الغربية والروسية، ما رسخ في القيادة والمجتمع ثقافة عدم الثقة.
وتجعل هذه الثقافة من الولاء الأيديولوجي أهم من الكفاءة، ويعزز السيطرة الاستبدادية ويقوض فرص الحكم التمثيلي.
وتتسم الجمهورية الإسلامية اليوم بشبه كبير بالاتحاد السوفييتي في سنواته الأخيرة: أيديولوجيا منهكة، قيادة مسنة مقاومة للإصلاح، وخيبة أمل شعبية كبيرة. كلا النظامين سعت ثوراتهما إلى خلق نظام جذري جديد، واستعادت السلطة عن طريق معاناة هائلة للشعب والدول المجاورة.
ومع انهيار الأيديولوجيا، غالبا ما يُولد الفراغ الاستبدادي، كما حدث بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث برز فلاديمير بوتين رجل الاستقرار القومي بدلا من الشيوعية.
وقد تسلك إيران مسارا مشابها، مع ظهور رجل قوي مرتبط بالحرس الثوري أو الأجهزة الأمنية، يستبدل الإسلاموية بالقومية المدفوعة بالمظالم، ليؤسس شكلا جديدا من الاستبداد.
وعلى النقيض، يمكن لإيران أن تتبع النموذج الصيني، كما فعلت بكين بعد ماو، بالتحول نحو البراغماتية الاقتصادية مع استمرار السيطرة الاستبدادية، ما يحافظ على استقرار النظام ويتيح الانفتاح التدريجي على الاقتصاد العالمي، مع تخفيف الحماسة الثورية.
ومع ذلك، تواجه إيران صعوبات كبيرة مقارنة بالصين، مثل الاقتصاد الريعي الصعب والتحديات الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة، ما قد يقوض نجاح أي تحول براغماتي.
وأما السيناريو الكوري الشمالي فيعني استمرار الأولوية للأيديولوجيا والقمع، واستمرار الحكم تحت قيادة مرشد أعلى صارم، مع احتمال امتلاك سلاح نووي للردع.
وفي هذا المسار سيكون النظام غير قادر على الاستجابة لتطلعات المجتمع نحو الرفاه والحرية، وستكون السلطة مركزة في دائرة ضيقة، مع احتمال انتقالها وراثيا إلى نجل خامنئي، مجتبى، الذي يمثل استمرارية جيل والده أكثر من كونه رمزا للتجديد.
ويعتمد السيناريو الباكستاني على سيطرة الحرس الثوري كقوة أمنية وسياسية واقتصادية، ويصبح الجيش أو الحرس حارس الدولة، مع إضفاء الطابع القومي بدل الديني على الأيديولوجيا، واستمرار صراع النفوذ بين رجال الدين والحرس والمواطنين المطالبين بالكرامة والفرص.
ويقدم السيناريو التركي مسارا شعبويا: تحول مؤسسي شامل مع تفكيك السلطة الدينية ودمج الحرس الثوري في الجيش النظامي، وإعادة السلطات المنتخبة لممارسة دور حقيقي، ما قد يسمح بقيادة شعبوية مركزية تجمع بين الشرعية الشعبية والسلطة المركزية، والرمزية الدينية والقومية، مع إعادة توزيع جزئية للثروة.
وقد يؤدي ذلك إلى حكم هجين لا ديمقراطي تماما، ولا ديني مطلق، لكنه يحظى بدعم شعبي نسبي.
ويوضح التاريخ أن التنبؤ بمصير إيران محفوف بالمخاطر. وقبل الثورة كانت التوقعات حول خليفة الشاه متباينة، ولم ينجح أي منها. واليوم يظل مستقبل إيران مفتوحا، مع احتمالات متنوعة: جمهورية ما بعد إسلامية تركز على المصلحة الوطنية، استبداد عسكري، نظام شعبوي، أو استمرار الهيمنة الدينية.
وتظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية حاسمة، إذ يسعى الإيرانيون بالدرجة الأولى إلى حياة طبيعية، وحكم كفء يضمن كرامتهم الاقتصادية والاجتماعية.
وبعد خمسين عاما من حكم الجمهورية الإسلامية لا تزال إيران تملك الموارد الطبيعية والبشرية لتصبح قوة اقتصادية كبرى، لكن النجاح يتطلب إعادة تشكيل السياسات والقدرة على التعلم من الإخفاقات السابقة. والسؤال المحوري ليس فقط عن طبيعة التغيير، بل عما إذا كان سيحقق ربيعا طال انتظاره أم مجرد استمرار للشتاء السياسي والاجتماعي.
866 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع