رووداو ديجيتال:منذ أن بدأنا العمل الصحفي في بغداد، كان معلمنا الصحفي البارز محسن حسين (أبو علاء) هو من يوجهنا، يصوّب أخطاءنا، ويسدي لنا النصح حرصاً على العمل المهني، وقد فعل ذلك مع أجيال سبقتنا وأخرى لحقتنا.. اليوم، الأحد، 28 أيلول 2025، نقلت الأنباء التي كان هو أكثر من يجيد صياغتها، خبر رحيل أستاذ الصحافة العراقية ومعلم أجيالها، عن 91 عاماً في دولة الإمارات العربية.
ونعى نقيب الصحفيين العراقيين، مؤيد اللامي، الصحفي الرائد محسن حسين الذي وافاه الأجل اليوم في دولة الإمارات العربية.
وكتب اللامي في تدوينة على منصة (X) أن "الأسرة الصحفية العراقية فقدت اليوم واحداً من رموزها الذين كانت لهم بصمتهم المتميزة في تاريخ الصحافة العراقية، إنه الصحفي الرائد محسن حسين الذي وافاه الأجل في دولة الإمارات العربية المتحدة".
عاصر محسن عهد الملك فيصل الثاني ثم عهود عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف وأحمد حسن البكر وصدام حسين وجلال طالباني، قبل أن يترك العراق متنقلاً ما بين لبنان ودولة الإمارات العربية.
في عام 1948 أكمل محسن حسين دراسته الابتدائية في بلدة المشخاب، التي ولد فيها عام 1934، والتابعة لمحافظة كربلاء، ليلتحق بـ(ثانوية الشامية)، وكلا البلدتين مشهورتان بإنتاج رز العنبر العراقي المميز، وعندما نجح من الرابع ثانوي ولم يكن في الثانوية نفسها صف خامس وهو آخر مرحلة في الدراسة الثانوية وقتذاك، فاضطر إلى السفر إلى بغداد عام 1953 والالتحاق بأرقى مدارسها الثانوية (الإعدادية المركزية)، وشكلت هذه الانتقالة من بلدة ريفية إلى العاصمة انعطافه مهمة في حياته دفعته لأن يتحدى كل الظروف ليؤكد مهارته في بغداد وفي المدرسة التي تخرج منها غالبية العلماء والأطباء والمهندسين والسياسيين العراقيين.
تحصيله العلمي آنذاك أهله للحصول على وظيفة حكومية، وكان عليه أن يعمل ليسدد نفقات دراسته وإقامته في العاصمة التي لا يعرف فيها أحداً، فعمل بدرجة كاتب في مديرية الصناعة العامة، وخلال ذلك بدأ يراسل الصحف والمجلات العراقية، لاسيما صحيفة (الشعب) التي عرضت عليه العمل في عام 1956 وكانت تلك بداية عمله الصحفي الذي أغراه للاستمرار به على مدى أكثر من ستين عاماً متواصلة، وقد كتب القصة القصيرة في بداية حياته الصحفية ثم تخصص بالأخبار. بعدها في مجلة (الأسبوع) التي تصدر عن الصحيفة نفسها في عقد الخمسينيات وفي صحيفة (الجمهورية) بعد انقلاب تموز 1958 وفي صحيفة (البلاد) و(الإذاعة)، وكان واحداً من ثلاثة أسسوا وكالة الأنباء العراقية (واع) التي ظل يعمل فيها حتى عام 1977 مديراً للأخبار الداخلية ومعاوناً للمدير العام ونائباً لرئيس التحرير ومديراً لمكتب القاهرة، حيث غطى أغلب مؤتمرات القمة العربية منذ المؤتمر الأول عام 1964 والمؤتمرات الأخرى في المغرب وتونس ومصر والأردن وبغداد، وظل عدة سنوات مستشاراً لاتحاد وكالات الأنباء العربية الذي ساهم في تأسيسه عام 1964. وإخلاصاً للوكالة التي ساهم بتأسيسها وتم إغلاقها بعد 2003، عمل مديراً مفوضاً ونائباً لرئيس مجلس إدارة الوكالة الوطنية العراقية للأنباء (نينا) التي انطلقت عام 2005 والتي كان أحد مؤسسيها، وهي الابنة الشرعية لوكالة الأنباء العراقية (واع).
كان محسن حسين موضع تقدير كل رؤساء العراق منذ عبد الكريم قاسم، مروراً بعبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف وصدام حسين، وذلك احتراماً لمهنيته وحياديته وعدم تحزبه أو انحيازه لأي منهم، بل كان ينحاز لمصداقية الخبر الصحفي، لهذا رافق جميع الرؤساء في زياراتهم ومؤتمراتهم إلى خارج العراق، حيث رافق عبد السلام عارف إلى مصر مرات عدة وعبد الرحمن عارف إلى إيران، وصدام حسين إلى ليبيا والاتحاد السوفيتي.
ويروي محسن حسين رواية طريفة لما حدث له برفقة صدام حسين خلال ثاني زيارة له للاتحاد السوفيتي عندما كان نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة، عام 1972، يقول: "بعد وصولنا مطار (فنوكوفو) وانتهاء الاستقبال الرسمي توجه موكب صدام إلى تلال لينين في ضواحي موسكو حيث خُصص أحد قصور الضيافة له.. أما نحن أعضاء الوفد المرافق فقد توجهت بنا السيارات إلى فندق مخصص أيضاً لاستضافة الوفود الرسمية في مركز العاصمة موسكو، وهناك وزعت علينا الغرف بمعرفة مسؤولين من دائرة البروتوكول (المراسم) في وزارة الخارجية السوفيتية.. وعندما وصلتُ إلى غرفتي وجدت أنها جناح (سويت) يضم غرفة استقبال إضافة إلى غرفة النوم، ووجدت في الغرفة باقة زهور وسلة مليئة بالفاكهة المنوعة.. ولما خرجنا من الفندق للالتحاق بالموكب الرسمي وضع المرافقون السوفييت سيارة فخمة تحت تصرفي في حين خصصوا سيارة لكل ثلاثة أو أربعة من أعضاء الوفد.. وفي بادئ الأمر تصورت أن ذلك أمر طبيعي وأن جميع زملائي في الفندق قد حصلوا على (سويتات) مماثلة، ولكني اكتشفت بعد قليل أن البقية قد حصلوا على غرف اعتيادية وليس فيها زهور ولا فواكه!.. قلت في نفسي لعلهم ميزوني على البقية لأنني الصحفي المكلف بتغطية أخبار الزيارة ولأنني معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية وأن هذا الاهتمام سينعكس على ما أرسله من تقارير إخبارية وما سأكتبه في المستقبل من انطباعات (جيدة) عن الاتحاد السوفيتي!. في اليوم الثالث من الزيارة اكتشفت "سر" هذا الاهتمام!.. وعند منتصف الليل فوجئت بالراحل شاذل طاقة وكان في ذلك الوقت على ما أذكر وكيلاً لوزارة الخارجية يطرق باب غرفتي.. دخل إلى الغرفة وهو يضحك قائلاً إنه يريد أن يرى الغرفة المخصصة لي، ولما اطلع على (السويت) قال لي بالحرف الواحد مازحاً: (جماعتك السوفييت انلعبوا!).. وشرح لي ما حدث.. قال إن موظفي مراسم الخارجية السوفيتية تلقوا إشارة من سفارتهم في بغداد أن أخ صدام حسين ضمن الوفد وقد أرادوا الاهتمام به إكراماً للضيف، فدققوا في أسماء أعضاء الوفد فوجدوا اسم (محسن حسين) واعتقدوا أنك أخو "صدام حسين"، في حين أن المقصود كان برزان التكريتي الأخ غير الشقيق لصدام، ولم يكتشفوا خطأهم إلا اليوم".
كانت مجلة (ألف باء) الرسمية آخر محطة صحفية عمل فيها الصحفي الكبير محسن حسين رئيساً لأقسام عدة ومديراً للتحرير، حتى تقاعده الوظيفي وليس المهني، فصحفي مثل (أبو علاء) لم يعرف يوماً معنى التقاعد من مهنة الصحافة، إذ بقي يكتب وينشر ويتابع ويعلق على الأخبار المحلية والعربية والعالمية، وألقى الكثير من المحاضرات في قسم الإعلام بجامعة بغداد ونقابة الصحفيين العراقيين، ومثّل وكالات الأنباء العربية حتى، وتحول إلى مرجع معرفي مهم لكل الصحفيين والباحثين الأكاديميين حتى الأيام الأخيرة من حياته.
921 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع