حلم المعماري فرانك لويد رايت الضائع في دهاليز بغداد

حلم لم يكتمل

ميدل ايست/د. حسين جبار ابراهيم:مؤسس الحداثة والعمارة العضوية زار العاصمة العراقية عام 1957 لتصميم مركز ثقافي ودار أوبرا مستوحاة من التراث المحلي، إلا أن الانقلاب العسكري عام 1958 أوقف المشروع وحوّل حلمه إلى واقع جزئي في أريزونا.

ارتبط اسم المعماري فرانك لويد رايت بالحركة المعمارية الحديثة في اميركا كأحد المؤسسين للحداثة والعمارة العضوية (المواءَمة بين العمارة والبيئة المحيطة بها). ولرايت قصة عشق وارتباط فكري وعاطفي مع بغداد. زارها عام 1957 بدعوة من فيصل الثاني ملك العراق لتخطيط وتصميم مركز ثقافي ودار اوبرا في بغداد، فطار اليها، وقبيل هبوط الطائرة على مدرج مطار المثنى شاهد من النافذة "جزيرة ام الخنازير" التي تحتضنها ذراعا دجلة في منطقة الجادرية.

كان في انتظاره عندما وصل الى بغداد في الاسبوع الاخير من يونيو/حزيران 1957 اهم طلابه والعاملين معه سابقا ومنهم المعمار العراقي نزار جودت الايوبي ابن رئيس الوزراء. اقام مع زوجته في فندق الخيّام المجاور لسينما الخيّام، ولم ينتظر، بدأ جولته في بغداد، واجتمع بالمهندسين العراقيين واوصاهم بضرورة اقتفاء اثر اجدادهم في التصميم والبناء، وابدى اعجابه باعمال النحات والرسام جواد سليم، وانتقد في الوقت نفسه البعض من العراقيين المقلدين للعمارة الغربية. التقى بعد ذلك بضياء جعفر رئيس مجلس الاعمار، وناقش معه ومع اعضاء المجلس المشروع المقدم اليه من جلالة الملك.

كانت مصادر رايت المعرفية تعتمد على رؤية اسطورية للتاريخ والحضارة في العراق، ولكن الملك نبهه بانه يخلط في حديثه بين الفنون الفارسية والفنون المرتبطة بتاريخ بغداد، فتسبب ذلك في احراجه. ولكن ليس معنى هذا انه كان يجهل التاريخ العراقي، فقد درسه جيدا واعتمد عليه عندما صمم الاوبرا بشكل زقورة واعطى مبرراته القوية على ذلك. فقد استعمل مفهوم الزقورة الرمزي والديني والوظيفي، لان الزقورة كانت في الاصل ذات وظائف متعددة، منها حماية ابناء المدينة من الفيضانات، وملجأ لهم من الشرور والمخاطر، وهي ساحة التجمع والتفاعل الاجتماعي والتبادل التجاري والعرض الفني اضافة الى وظيفتها الدينية. كان رايت متأثرا ايضا بقصص الف ليلة وليلة وبما نشره المهندس والباحث التاريخي وليم ولكوكس عن تجاربه حول ري العراق والتي ضمنها اعتقاده بان موقع جنة عدن هو الأرض الواقعة بين بغداد والفلوجة.

قال رايت ان الهدف من فكرته التصميمية هو المحافظة على روح ومجد الحضارات العراقية، اضافة الى مسايرة التكنولوجيا المعاصرة، اراد ان يهيئ العراق للسائح الاجنبي، وفي الوقت نفسه للعيش العام. كان عليه ان يضع افكاره ضمن ميزانية حددها الملك بمليون ونصف المليون دولار اميركي، التي تعد ميزانية هائلة في ذلك الوقت وتسمح بجعل هذا الحلم يغدو حقيقة واضحة. لقد اصبح للعراقيين بفضل النفط والطريقة الجديدة لتقاسم ارباحه التي فرضها نوري السعيد على الشركات الاجنبية، مبالغ كبيرة يمكن بها اعادة مدينة هرون الرشيد الى سابق عزها وازدهارها. ولا بد في الوقت نفسه من سد الباب بوجه المعماريين الغربيين الذين يرومون بناء ناطحات سحاب على ارضها لتقع في الفخ الذي وقعت فيه المدن الغربية الكبيرة. لا بد من المحافظة على الروح الشرقية الحية لبغداد وعدم تركها تسير في ركاب الغرب واسلوبه الجامد.

رسم رايت تصميمه متضمنا دار اوبرا، وحدائق، وشوارع، ومواقف سيارات، ومتاحف، ومجمعات تسويقية، ودور سينما، ومسرح كبير… بدأ عمله بالتصاميم الاولية معتمدا على مخططات تصميم اساسي سابق لمدينة بغداد. ثم باشر بتصميم اعمال الموقع منطلقا من محور تصميمه الرئيسي: الشارع والممشى المركزي، وجعل الجزيرة ترتبط بجسرين، احدهما يوصلها بالكرخ فوق الجزء الضيق من النهر، ويرقى الى ساحة يتعامد عليها شارع رئيسي يربط بين تمثال ضخم لهرون الرشيد في الشمال، ودار الاوبرا في الجنوب، واقام على هذا الشارع متحفا وقاعة فنون واسواق. بينما يمتد الجسر الآخر، الكبير، فوق الجزء الواسع من النهر، فيربط الجزيرة بمنطقة الجادرية، حيث موقع جامعة بغداد التي رسم لها تصميما هي الاخرى، وعزز ذلك الشارع بجملة من الحوانيت لتاكيد الصفة التجارية السياحية لتصميمه. وبامكانك ان ترى على الخريطة "جنة عدن" التي اعتمد رايت في اظهارها على بساتين واشجار وحدائق وعززها بتمثالين لآدم وحواء ونافورة ماء تشكل قبة مائية فوقهما. وجعل الشوارع والممشى الرئيسي محاطة بصفوف من اشجار السرو وبنصب لشخصيات من التاريخ العراقي. وتلك العناصر كلها مساندة لفعالية دار الاوبرا بتصميمها شبه الدائري الفريد والمرن وبسعة كبيرة. اجلس رايت المبنى على تلة، يصلها طريق متصاعد من مكان تحيط به بركة ماء تحف بها حدائق. ويعلو المبنى تمثال لعلاء الدين وهو يحمل مصباحه السحري المنير، الذي يرمز الى الخيال العراقي الخصب.

اقترح رايت ان تنفذ هذه الاعمال الفنية من قبل الفنانين والحرفيين العراقيين، نظرا للقدرات العالية التي لمسها لديهم، والذين كان يرغب بدعمهم لتطويرهم فنيا واقتصاديا، كما كان يبغي ابعاد العمل عن الاوربيين وتاثيراتهم. وصمم متحفين على الطريق الواصل بين دار الاوبرا وتمثال هرون الرشيد لضم الاعمال الفنية واللقى الاثرية والتماثيل التاريخية وعرضها.. ووضع في مدخل المتحف ثورين مجنحين على شاكلة القصور الاشورية.

كانت قيمة بغداد المعنوية لدى رايت عالية جدا، ولذلك صمم نصب هارون الرشيد بحجم يقارب حجم تمثال الحرية في نيويورك (300قدم)، واجلسه على مدرج يشبه الملوية، واعتمده كعنصر تصميمي لشمال الجزيرة ودلالة مميزة ترى من مسافات بعيدة. وجعله يواجه جهة الشرق، وهذه سمة التماثيل في كل الحضارات الشرقية القديمة، مثل تمثال ابو الهول. كان النصب لهرون الرشيد وليس لابي جعفر المنصور مؤسس بغداد، بسبب عصره الذهبي الراقي والمزدهر.

كان فرانك رايت قلقا، يؤرقه اعتقاد بانه لا يستحق هذا الواجب، ولا يستطيع ان يوفي به امام المهندسين العراقيين ذوي الذكاء الحاد، لذا حرص على ان يقدم العمل الجيد ليكسب رضاهم ويتجنب انتقاداتهم. وبعد ثمانية اشهر من العمل الدؤوب والمتواصل، اكمل مخططاته (في مارس/اذار 1958)، وعرضها بعدد كبير من الرسوم والخرائط، وارسلها الى مجلس الاعمار. كان فرحا وفخورا بانجازه العظيم، وتحدث عنه في الاوساط المعمارية كتصميم عدّه افضل عمل قام به في حياته. ولكن، وعلى حين غرة وقع انقلاب العسكر في 14 تموز 1958 ووضع خاتمة حزينة ومؤلمة لهذا الجهد. وعدّ قادة الانقلاب الذين خلقوا جوا همجيا وعدائيا في شوارع العاصمة، ان مشروع الملك "خيالي" وتكلفته باهظة، وهم يفضلون عليها المشاريع الصغيرة التي تظهر نتائجها بسرعة، لان توجه الحكومة الجديدة هو اصلاح الامور الملحة مثل الاسكان (على الرغم من ان الحكومة الملكية رصدت لهذه المشاريع ايضا ما يكفي ويزيد من الاموال). وهكذا اهمل المشروع الحلم وبددت ميزانيته كتبرعات لدول صديقة ومؤيدة "للجمهورية الفتية" مثل السنغال والجزائر..

بقيت مخططات فرانك لويد رايت وخرائطه على الارفف في وزارة الاعمار.. وعند قيام انقلاب فبراير/شباط 1963 اخرجت مع غيرها من الاوراق ورميت على سطح الوزارة! وبعد سنوات وجد المعمار معاذ الآلوسي قسما منها، وبعد سنوات اخرى عثر المعماري سعد الزبيدي على قسمها الآخر..

كان فرانك في الواحدة والتسعين من عمره حين تلقى خبر مقتل الملك فيصل الثاني وعائلته، وصدم بتلك الطريقة البشعة التي انتهت بها حياة ملك وطني ومخلص وأمين وعاشق للثقافة والفن. اما هو فلم يتنازل عن حلمه وحبه لبغداد، وقرر تنفيذ مشروعه في اريزونا، حيث يشابه الجو هناك جو بغداد، فبني المسرح الذي صمم بجزيرة ام الخنازير ببغداد، ولكن دون تمثال علاء الدين ومصباحه السحري. وكان ذلك آخر تصميم له، إذ توفي بعد مرور ثمانية اشهر على مقتل ملك العراق الشاب فيصل الثاني.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

611 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع