فجأة وجدتها تقف بيننا..
لم يكن جلبابها الأسود الطويل ولا الطرحة السوداء محكمة الرباط تنسجم مع جمعنا. كنا نهتف عاليا «صوت المرأة ما هو عورة. صوت المرأة ثورة ثورة». كنتٌ قد وضعتُ شعارا مشابها على واجهة قميصي الأبيض وزميلة أخرى لصقته على جبهتها وثالثة حملت الشعار المكبر ورفعته عاليا ليقرأ المارة المترجلون والمارون بسياراتهم التي كانت تبطئ لتتعرف على مظاهرة تعج بالنساء ويشارك بها بعض الرجال.
اللافتات الكبيرة كانت تحمل مطلبين لا ثالث لهما الأول مشاركة منصفة للنساء في الدستور المصري قيد الإعداد حاليا، والثاني تجريم التحرش بعدما صارت الشوارع جحيما ينتظر النساء بأقبح ما يمكن أن يأتيه رجل أو شاب مصاب بعطل في ضميره وعقله.
المظاهرة النسائية التي وقفت أمام القصر الرئاسي في مساء يوم الخميس الماضي جذبت كاميرات الإعلام وانضم إليها كثير من المنظمات الأهلية وعدد من رموز الأحزاب الليبرالية واليسارية، لكن السيدة ذات الجلباب الأسود لم تكن تعرف أيا من هؤلاء، كانت تسير بخطوات مرتبكة على الرصيف المواجه للقصر حيث تجمعنا، تتخبط فينا بقامتها الضئيلة وجسدها النحيل، وحين انتبهتُ إليها وخرجت بها من وسط الجمع وتحركنا خطوات للأمام وجدت نفسي أمام سيدة بوجه ملائكي وديع، قدرت عمرها بالأربعين، ثم ظننتها في الخمسين، لكنها أيضاً يمكن أن تكون في الثلاثين، هربت السنوات من وجهها، وسكنت صوتها، حين خرجت منها كلمات أتاني صوت معبأ بالعقود والوجع، صوت اعتاد الخوف والاختباء، صوت هذه الظلم.
قالت «اسمي مريم»
وأنا اسمي «جيهان»
ابتسمت للمرة الأولى وقالت: ابنتي اسمها «جيهان»
حين حميت ظهرها من صحافي كاد أن يصيبها بكاميراته. احتضنتي شاكرة. ثم ظلت قريبة مني وقلبت كف يدها الأيسر لكي أرى الصليب المدموغ على رسغها. نظرت إلى عيني وسألت: أنت مننا مش كده؟
«أيوه يا ست مريم أنا منكم» هكذا أجبت
انتهت المظاهرة التي جمعتني بالسيدة «مريم» الصعيدية المسيحية القادمة من شمال مصر لترفع شكواها للرئيس. وظل سؤالها يطن برأسي «هل أنا منهم؟»
شطرني السؤال إلى نصفين ووجدت نفسي في مواجهة مباشرة الساطور. والساطور يشبه السكين لكنه كبير حاد قبيح وصارم، يقطع ولا يصل، يمزق ولا يجمع، يصدأ معدنه القاطع مع الوقت ويصير خشنا، الساطور قسمنا إلي نصفين «هم» و «نحن» نحن الملاك وهم الضيوف، نحن الأقوى وهم الأضعف، نحن الأغلبية وهم الأقلية، نحن الحق وهم الباطل، نحن الأصل وهم لا شيء. الساطور الغليظة التي تقسم الهوية بدأت عملها من زمن بعيد. منذ اكتشفها محتل غاز قدم لنهب ثروات البلاد، واكتشف من بين ما اكتشف ساطورا قاطعا لشق الجموع، والجموع المصرية حدث أن اجتمع لها اللغة والتاريخ والثقافة والنيل والسماء، وحدث أن ترك لها «اخناتون» توحيدا مبكرا، وترك لهم «ماعت» إله الحق والعدالة والنظام تراثا من القوانين للفصل في النزاعات وتثبيت ركائن دولة تحترم كل مواطنيها وتصفهم على قدم المساواة أمام القانون، لكنه ومع ضعف الدولة الفرعونية وتوافد المحتل على مصر تنوع شكل الساطور، فالمحتل الإنجليزي فضل شق الصفوف بتأجيج النزعة الدينية، وفي دول أخرى أجج نفس المحتل النزعة الطائفية وفي نفس منطقتنا العربية مزق الهوية العرقية، أما المحتل الجديد هلامي الملامح أنيق الحضور. فقد عين نوابا عنه في مصر وفي سوريا وفي ليبيا وفي تونس نواب يطرقون أبواب المنازل ثم يفحصون قلوب ساكنيها وضمائرهم ويقدرون حجم إيمانهم بميزان عجيب، وعليه تقسم البلاد بين مؤمنين وكفار من العباد، أما هؤلاء الذين يؤمنون بدين آخر فعليهم أن يحتملوا البقاء في مقعد «الآخر» المنبوذ المقصى في وطنه والغريب على أرضه و «الآخر» بين أهله.
وقبل عدة شهور حين زرت «مقدونيا» الإمبراطورية التي قسمت وتمزقت ولم يعد منها سوى ذكريات مسجلة في كتب التاريخ فوجئت بوضع شبيه، لكنه هناك ضد «الروما». والروما هم من نسميهم نحن «بالغجر»، أسقط عليهم المجتمع المقدوني كل إحباطاته ووسمهم بكل النقائص والعيوب. وهم دوما من يشار إليهم بـ «هم»، هم الآخر الذي يجب أن يظل ضعيفا لكي يبقى القوي قويا، ويجب أن يظل منبوذا لكي يقدر سماحة الحاكم حين يلقي إليه بالفتات، ويجب أن يظل مهزوما حتى لا يحلم بالانتصار. «هم» الآخر الذي يجب أن يبقى ساكنا في صفه الأخير، هم أيضاً بعض المسلمين في بورما البوذية، الدولة الصغيرة التي تجاور تايلاند، والتي تضم أقلية مسلمة يبلغ حجمها %10 من مجموع السكان. لم أعرف على وجه التحديد لمن كنت أنتمي حين أجبتها إنني «منهم»، لكني كنت واثقة أنني لا أريد أبداً أن أنتمي لأغلبية تقصي بَشرا وتفحص في هويات قلوبهم وتراقب أصواتهم، لا أريد الانتماء لمن زرع الخوف في صوت السيدة مريم وأوعز لها أن الصليب سينقلها من رقعة الآمنين إلى رقعة المروعين.
اقرأ المقال الأصلي علي بوابة الوفد الاليكترونية الوفد - جيهان أبوزيد تكتب:مواجهة مع الساطور أمام قصر الرئيس
898 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع