
ذو النورين ناصري زاده
هندسة المكان وصناعة الإنسان
تُعدّ العلاقة بين المكان والإنسان من أهم المتغيرات الثقافية والاجتماعية التي أسهمت في تشكيل الشخصية الفردية والجماعية عبر التاريخ. فالمكان لا يُفهم بوصفه حيّزًا جغرافيًا محايدًا، بل بوصفه نسقًا مركبًا من الخصائص البيئية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تتفاعل مع الإنسان وتؤثر في اتجاهاته وسلوكه، وفي صياغة منظومات التفكير والتمثلات الذهنية داخل المجتمع. ومن هنا جاءت فكرة أن المكان ليس مجرد إطار خارجي يعيش فيه الإنسان، وإنما هو عامل فاعل في تشكيله وإعادة صياغته بصورة مستمرة.
إنّ نظريات الجغرافيا الاجتماعية والأنثروبولوجيا الحضرية تؤكّد أن المكان يمتلك قدرة مؤسسية على "التنشئة"؛ فهو يؤدي وظيفة مماثلة لوظائف المدرسة والأسرة والمؤسسات التربوية، لكن بصورة غير مباشرة ومتواصلة. فالشوارع، وأنماط السكن، والمؤسسات المحلية، وأنساق التعامل اليومي، وتاريخ المجتمع المحلي، كلها تُجمِّع في داخلها منظومة قيم تُمرَّر إلى الأفراد من خلال الحياة اليومية والتفاعل الاجتماعي المتكرر.
وفي هذا السياق، يمكن ملاحظة الاختلافات العميقة بين المدن والبيئات العمرانية في إنتاج أنماط مختلفة من الشخصيات القيادية والإدارية والسياسية والاقتصادية. فهناك مدنٌ تاريخية ذات بنية تنظيمية راسخة، تتسم بتقاليد إدارية متعاقبة، وتعود جذورها إلى خبرات حضرية تراكمية. مثل هذه المدن غالبًا ما تُنتج أفرادًا يمتلكون وعيًا إداريًا مبكرًا، ويتقنون مهارات التنظيم وضبط الموارد وتسيير المؤسسات. ويمكن وصف هذه المدن بأنها "مؤسسات صامتة للتأهيل المهني"، إذ لا يخرج الفرد منها إلى الحياة العامة إلا وقد اكتسب مهارات الإدارة بصفتها جزءًا من السلوك الاجتماعي اليومي.
أما المدن التي اشتهرت عبر تاريخها بتمركز السلطة السياسية وتعدّد القوى الفاعلة داخلها، فإنها غالبًا ما تُنتج شخصيات تؤمن بالتوازن والتفاوض وإدارة النفوذ وصناعة التحالفات. في هذه البيئات السياسية المتشابكة يتعلم الفرد قواعد اللعبة السياسية منذ وقت مبكر، ويتشرّب فكرة أن القيادة لا تقوم على السيطرة المباشرة فقط، بل على بناء شبكة مصالح وحسابات دقيقة تسهم في تثبيت الحضور داخل المشهد العام.
وبالمثل، توجد مدن ذات تقاليد اجتماعية راسخة في الحماية المجتمعية، والتنظيم العشائري، والقيادة المرتبطة بالمكانة العائلية أو الرمزية. هذه البيئات تُنتج شخصيات قيادية ذات نزعة حازمة، مدركة لمسؤولية الموقع الاجتماعي ودوره في تأمين مصالح الجماعة. ولا يظهر هذا النسق بوصفه سلوكًا فرديًا، بل بوصفه امتدادًا لثقافة مكانية ترى القيادة تكليفًا مرتبطًا بالأرض والهوية الاجتماعية.
في المقابل، تظهر مدنٌ لعبت فيها النشاطات التجارية والمالية دورًا حاسمًا في تشكيل الوعي العام. هذه المدن غالبًا ما تُخرّج أفرادًا يمتلكون مهارات اقتصاد الحياة اليومية: فهم الأسواق، قراءة حركة الموارد، إدارة المخاطر، واتخاذ القرار بناءً على المعطيات الواقعية لا على الانطباعات. فالسوق في هذه المدن ليس مؤسسة اقتصادية فقط، بل مؤسسة تربوية غير مباشرة تُدرّب أبناءها على الانضباط المالي والوعي التجاري.
ومن منظور علم الاجتماع الحضري، فإن أثر المكان في تشكيل الإنسان لا يعود إلى صفاته المادية وحدها، بل إلى "الهندسة الاجتماعية الخفية" التي تحكمه، والتي تتجسد في:
أنماط السكن والعمران، والبنية الاقتصادية السائدة، وطبيعة العلاقات الاجتماعية، ومستوى وجود المؤسسات المدنية والثقافية، وتاريخ الجماعة وذاكرتها المشتركة.
هذه العناصر مجتمعة تصنع منظومة متكاملة من القيم تظهر في سلوك الأفراد قبل أن تُكتب في السياسات أو الدساتير. ومن هنا فإن الصناعة البشرية لا تُفهم بمعزل عن الهندسة المكانية التي تشكّل الإطار الذي يتفاعل فيه الفرد ويتطور داخله.
وتشير الدراسات الحديثة في علم الاجتماع البيئي إلى أن غياب التخطيط الحضري القائم على فهم دور المكان في تشكيل الوعي الجمعي يؤدي إلى تشكّل نماذج بشرية مشتتة، ضعيفة الانتماء، غير قادرة على بناء هوية جماعية ذات استمرارية. بينما يفضي التخطيط الذي يربط بين البيئة المكانية واحتياجات المجتمع إلى إنتاج إنسان أكثر قدرة على الفعل والإسهام والاندماج.
وهكذا يخلص التحليل إلى أن المكان ليس مجرد خلفية صامتة للتاريخ، بل هو أحد صُنّاعه الفاعلين. فالمجتمعات التي أحسنت تهيئة فضائها العام نجحت في بناء إنسان يمتلك هوية واضحة وقدرة أكبر على الإنتاج والاندماج، بينما دفعت المجتمعات التي تركت شؤونها للعشوائية ثمنًا إنسانيًا واجتماعيًا طويل الأمد. إن فهم الظاهرة الإنسانية على نحو علمي شامل لا يكتمل إلا بفهم المكان، بوصفه منظومة مؤثرة في الوعي والسلوك والهوية، وفاعلًا حاسمًا في صناعة الإنسان المدرك وتشكيل الوعي الجمعي للأمم.

861 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع