أ.د.محمد تقي جون
مذهب المتنبي
أختُلفَ اختلافا شديداً في (مذهب المتنبي)، فقال البعض انه (شيعي)؛ لانه ذكر في شعره مصطلحات الشيعة مثل (الوصي) (النواصب) كما ذكر (المهدي المنتظر). واستدل محسن الأمين العاملي على تشيعه لكونه كوفيا، وكون محلته كندة شيعية. وذهب البعض الى انه (معتزلي) لانه ذكر بعض مصطلحات المعتزلة كقوله:
فَتَمليكُ دِلَّيرٍ وَتَعظيمُ قَدرِهِ شَهيدٌ بِوَحدانِيَّةِ اللَهِ وَالعَدلِ
يشير إلى قول المعتزلة في (التوحيد والعدل) وفعل الصالح والأصلح كما يقول (عزام). وذهب البعض الى انه يميل الى المتصوفة لأنه (يستعمل أساليبهم وكلماتهم المعقدة ومعانيهم المغلقة، والرمز والايحاء، والاكثار من حروف الجر). ونسب الى مذاهب ضالة ومنحرفة، ذكر الاصفهاني (أنه وقع في صباه إلى أحد المتفلسفة وهو أبو الفضل الكوفي فهوسه واضله كما ضل). وذكروا ان في شعره شيئا من هذه المذاهب مثل: السفسطائية، والتناسخ...الخ. ورأى طه حسين في قوله:
نورٌ تَظاهَرَ فيكَ لاهوتِيَّةً فَتَكادُ تَعلَمُ عِلمَ ما لَن يُعلَما
(رأياً صريحاً في الحلول)، وهو القول بأن (الله سبحانه يحلُّ في الأجسام). واتهمه آخرون بأنه (ليس على مذهب) أو (لا يوقف له على مذهب).
نقول:
ما يخص الدين، المتنبي كان دنيويا متخففا من الدين، فقد جعل همه الاوحد طموحه الى الثراء والملك، وقد ذُكر انه (ما صام ولا صلى ولا قرأ القرآن). وتدل أبيات من شعره على عدم التزامه الديني، ففي مرة شرب الخمر لان أحدهم حلف عليه بالطلاق أن يشربها فقال:
وَأَخٍ لَنا بَعَثَ الطَلاقَ أَلِيَّةً لَأُعَلِّلَنَّ بِهَذِهِ الخُرطومِ
فَجَعَلتُ رَدّي عِرسَهُ كَفّارَةً عَن شُربِها وَشَرِبتُ غَيرَ أَثيمِ
فأفتى من نفسه بجواز شربه الخمر لأنه سيمنع طلاق الرجل لزوجته! ومرة سهر مع أحد الامراء وهو يشرب الخمر من الليل الى الفجر، وحين أذَّن المؤذن لصلاة الفجر خجل الامير ووضع الكأس، فاعتذر المتنبي له شعرا رادا على المؤذن بأن الامير غير ناس لحقوق الله ولا قاسي القلب من ضعف الايمان. وحتما لم ينهض المتنبي بعد ذلك الى الصلاة، بل بقي مع الامير وهو يواصل الشرب بعد فاصل الاذان، قال المتنبي:
أَلا أَذِّن فَما أَذكَرتَ ناسي وَلا لَيَّنتَ قَلباً وَهوَ قاسِ
وَلا شُغِلَ الأَميرُ عَنِ المَعالي وَلا عَن حَقِّ خالِقِهِ بِكاسِ
ولا نجد في شعر المتنبي تأثرا او اقتباسا من القرآن المجيد.
أما مذهبه الديني، فعلينا التعرف الى الكوفة جيدا، التي ولد وترعرع فيها، وخرج منها وعاد اليها لولا المنية:
ولد المتنبي في الكوفة، في محلة تسمى (كندة)، وترعرع فيها وأثرت في تنشئته وتكوينه، وتركت فيه آثارا جوهرية. منها الفصاحة والميل الى الاصالة في السلوك والفن، والحقد على العباسيين، كما ان الكوفة وسمته بلقب (المتنبي) الذي صار دالة عليه أكثر من اسمه، وحمله طيلة حياته وسيحمله الى الابد.. والكوفة (عاصمة التشيع) ومنطلق وشرارة الثورات العلوية ضد العباسيين.
ويظهر من شعره انه كان يعشق الكوفة، ويحن الى أيامه ومرابع صباه فيها، ويتحسر على تركها، مما يعني انه كان مجبرا على ذلك. ويبدو حضور الكوفة في روحه ووجدانه أينما حل في قوله:
أَمُنسِيَّ السُكونَ وَحَضرَمَوتا وَوالِدَتي وَكِندَةَ وَالسَبيعا
فـ(السكون وحضرموت وكندة والسبيع) أماكن في الكوفة كان يألفها المتنبي.
والكوفة مرتكز وانطلاق المتنبي في طموحه وشعره، فقد خرج المتنبي من الكوفة لا يعرف وجهته تماماً، وبعد رحلة عمر محفوفة بالطموح والاخفاق، عاد الى الكوفة لا يعرف وجهته تماماً. وممكن رسم خارطة جيلان المتنبي: (خرج من الكوفة الى بغداد منطلقا الى الشام جنوبا، ثم إلى الأناضول شمالا، ومن القاهرة غربا إلى شيراز شرقاً، ثم الى بغداد فالكوفة عائدا فمقتولا).
وعلى الرغم من ان الكوفة مدينة الامام علي (ع) وعاصمة التشيع، الا انها في العصر العباسي لم يسكنها الشيعة فقط، فليس كل ساكن للكوفة أو ناشئ فيها شيعيا، وقد سكنها أكابر ومشاهير علماء سنة مثل: سفيان الثوري (161هـ)، شعبة بن الحجاج (160 هـ)، وكيع بن الجراح (197هـ)، أبي حنيفة النعمان (150هـ)، الفراء (207هـ)، الكسائي (189هـ)، ثعلب (291هـ)، أبي جعفر الرؤاسي (187هـ)، المبرّد (285هـ)، ابن أبي دؤاد (316هـ)، ابن ابي حاتم الرازي (327هـ)، ابن الجنيد (297هـ)، ابن درستويه (347هـ). فكون المتنبي كوفيا في القرن الرابع العباسي لا يحسم انه شيعي. وورد عن جدته انها (من صلحاء الكوفيات) وليس (العلويات). ولا يؤكد تشيعه كونه رضع مع محمد بن عبيد الله المشطّب العلوي.
ولكننا نحسم مذهبه من شعره ومواقفه:
ليس في شعر المتنبي أي اشارة الى الشيخين، أو أهل السنة، أو أفكارهم ومصطلحاتهم، مما يعني بُعدَه التام عن أن يكون سنيا. وبالمقابل ذكر المتنبي صراحة الامام علي (ع)، وأفكار الشيعة، ومصطلحاتهم، وجاء ذلك في قصيدته التي مدح بها ابا القاسم طاهر بن الحسين العلوي:
نَصَرتَ (عَلِيّاً) يا اِبنَهُ بِبَواتِرٍ مِنَ الفِعلِ لا فَلٌّ لَها في المَضارِبِ
وَأَبهَرُ آياتِ التِهامِيِّ أَنَّهُ (أَبوكَ) وَأَجدى مالَكُم مِن مَناقِبِ
إِذا لَم تَكُن نَفسُ النَسيبِ كَأَصلِهِ فَماذا الَّذي تُغني كِرامُ المَناصِبِ
إِذا عَلَوِيٌّ لَم يَكُن مِثلَ طاهِرٍ فَما هُوَ إِلّا حُجَّةٌ لـ(ِالنَواصِبِ)
هُوَ (اِبنُ رَسولِ) اللَهِ وَاِبنُ (وَصِيِّهِ) وَشِبهُهُما شَبَّهتُ بَعدَ التَجارِبِ
وكان يحب الامام علي حبا عظيما، وله أبيات في مدحه بتشبيه سيف الدولة به:
يا سيفَ دولة ذي الجلال ومن له خيرُ الخلائف والأنام سَميُّ
أوَمَا ترى صفين كيف أتيتها فانجاب عنها العسكر الغربيُّ
فكأنه جيش ابن حرب رعته حتى كأنك يا عليُّ عليُّ
وقوله:
وتركتُ مدحي للوصيِّ تعمُّداً إذ كان نوراً مستطيلاً شاملا
وإذا استطالَ الشيءُ قام بنفسه وصفاتُ ضوء الشمس تذهبُ باطلا
ولا نرى صحيحا قول يوسف بن يحيى الحسني اليماني في كتابه (نسمة السحر بذكر من تشيَّع وشَعَرَ وحكى) أن للمتنبي قصائد تسمى (العلويات) ومنها قصيدة في عيد الغدير. وما ذكرناه له بحق الامام علي صحيح وان كان من مزيدات الديوان، وقد رواها الواحدي. فهو شيعي لا جدال في ذلك. ولكن هل هو (شيعي زيدي) أم (شيعي إمامي)؟
الزيدية تؤمن بإمامة: علي فالحسن فالحسين فعلي السجاد (عليهم السلام) وتقف عند الامام محمد الباقر فتتركه الى (زيد بن علي) ولا تعترف بإمامة ما بعد الامام محمد الباقر. وتؤمن بالإمام المهدي ايمان اهل السنة بأنه (من آهل النبي ويخرج في زمانه) فلا تؤمن بالغيبة. وشخصية زيد ثورية لا تقبل بالقعود على الظلم، لذا جادل زيد أخاه الباقر (ع) في الإمامة ووجوب خروج الإمام بقوله (ليس الإمام من أرخى عليه ستره، إنما الإمام من أشهر سيفه. فقال له الباقر (ع): على مقتضى مذهبك والدك ليس بإمام، فانه لم يخرج قط، ولا تعرض للخروج). والمتنبي معجب بزيد يجعله إمامه ويؤمن تماما بأفكاره. وقد وجدناه يعلن زيديته ليشرعن ثوراته في الشام ولا سيما ثورته في حمص؛ فقد ادعى انه (علوي زيدي). والصحيح انه (زيدي فقط) وثار وفق الفكر الزيدي.
وقد تناول المتنبي شخص وفكرة الامام المهدي تناولا زيديا لا اثني عشريا. فالمتنبي لا يؤمن بالغيبة، ويؤمن كالزيدية بأنه يولد في وقته، وانه يقلب الامور قلبا وينتصر على الباطل ويصحح الخطأ. ففي قصيدته التي مدح بها ابن العميد استحضر المتنبي فكرة الامام المهدي من وجهة النظر الزيدية قائلا:
فَإِن يَكُنِ المَهدِيُّ مَن بانَ هَديُهُ فَهَذا، وَإِلّا فَالهُدى ذا فَما المَهدي
يُعَلِّلُنا هَذا الزَمانُ بِذا الوَعدِ وَيَخدَعُ عَمّا في يَدَيهِ مِنَ النَقدِ
هَلِ الخَيرُ شَيءٌ لَيسَ بِالخَيرِ غائِبٌ أَمِ الرُشدُ شَيءٌ غائِبٌ لَيسَ بِالرُشدِ
فبينما تقول الشيعة الاثناعشرية بفكرة (انتظار المهدي)، وانه يخرج حين يحين زمان ظهوره، يقول المتنبي بفكرة الزيدية وهو (خروجه في وقته) ثم يطرح (الظهور الحالي للمهدي) فليخرج اذن الان وليكن (ابن العميد) او غيره. ويرى ان الانتظار خداع وتضليل من الزمان فهو يسوّف بظهور المهدي مع انه قادر أن يعطيه الان نقدا، ثم يقول ظهور مهدي الان كظهور المهدي مستقبلا من ناحية الخير والرشد. وفكرة المتنبي تريد اصلاح الامور فورا والعمل الجاد عليه وعدم التهرب منه. وقد استغل المتنبي شخص (ابن العميد) ليطلق آخر صرخة أمل لمشروعه التغيير، عبر شخصية الامام المهدي وقراءتها قراءة زيدية ثائرة.
وبهذا يتأكد بالأدلة أن المتنبي (شيعي زيدي).
708 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع