
د.سعد العبيدي
مَن يُنقذ الله من الجهل
في مقهى حسن عجمي ببغداد، يجلس صلاح مع صديقه حسيب عند طاولةٍ مائلةٍ قرب النافذة المطلة على شارع الرشيد، حيث تتكئ الذاكرة على جدرانٍ تقشّرَ طلاءها من فرط الخيبة. رائحة البنّ المحروق تختلط بأحاديثٍ متقطّعةٍ عن السياسة والغلاء والبلاد التي هرمت من فرط التجهيل، فيما تتناوب أحجار الدومينو على الطاولة كأنها تطرق على جدار وطنٍ مغلقٍ بإحكام.
يُوزّع حسيب القطع على الطاولة بحذرٍ مدروس، فيرفع صلاح كفَّه فجأة، يحدّق في الشاشة المعلّقة على الجدار، وبصوتٍ متحمّسٍ يقول:
-دقيقة...مدير البستنة والغابات على الهواء، يتحدث عن التصحّر والجفاف! وبابتسامةٍ ساخرةٍ تغلفها نغمةُ الجدّ المُرهَق، يضيف:
-يقولون عنده رؤية وطنيّة ستجعل العراق أكثر خضرة من سويسرا.
يُحدّق الجالسون بإمعان. يظهر المدير ببدلة رمادية وربطة عنق خضراء تشبه خضرة البلاد المفقودة. تتحدث المذيعة بنبرةٍ متحمّسةٍ عن أزمة المياه، عن الأراضي التي ماتت عطشًا، عن الفرات الذي تراجع حتى صار نهرًا على الورق.
يهزّ المدير رأسه بثقةٍ من يعرف كل شيء، وبارتياحٍ مدهش يقول:
- ليجف الفرات، فالإمارات ليست أحسن منّا، لا يمتلكون أنهارًا ولا مياه جوفية!
يسود المقهى صمتٌ ثقيل، حتى النادل الذي كان يلمّ أقداح الشاي الفارغة توقّف لحظة، نظر نحو الشاشة، وأدار وجهته صوب صلاح، ليهمس بلهجةٍ بغداديةٍ أنيقة:
- هذا يحچي صدگ؟
تعالت ضحكةٌ من الطاولة المجاورة، قال أحدهم وهو يلوّح بسيجارته كمن يشرح نظريّةً علميّةً:
-حقًّا... ليجفّ الفرات! فالماء، كما يبدو، صار عدوّ التقدّم في هذه البلاد!
ردّ آخر، وهو يدفع نظّارته على أرنبة أنفه، بابتسامةٍ ماكرة:
ــ بل حين يجفّ النهر، نكسب أرضًا جديدة نوزّعها قطعًا سكنيّةً على المناضلين التقاة!
تتابعت ضحكاتٌ قصيرة، ثم ساد صمتٌ ثقيل، كأنّ السخرية وحدها صارت لغة الدفاع الأخيرة عن وطنٍ يشرب الملح، وينتظر المطر من شاشة التلفاز.
تواصل المذيعة اللبقة حديثها بصبرٍ أنيق، تسأله عن الخطوات العملية، عن رؤياه كمسؤولٍ في مواجهة الجفاف، فيبتسم بثقةِ تفوق المعتاد، يطوف بها في فضاءٍ مبهمٍ من التيه، قائلاً:
-هناك مائة ألف حلٍّ في الأفق.
تكرّر المذيعة السؤال، هذه المرة بصوتٍ يحمل رجاءَ الناس في المزارع وعلى ضفاف الأنهر الناشفة:
-سيدي، نريد حلًّا واحدًا فقط... شيئًا عمليا قابلا للتطبيق.
يميل الى الأمام بتعال، يصلح ربطة عنقه، ويقول كمن يعلن اكتشافًا علميًا فريدا:
-الحل في صلاة الاستسقاء، وتكثيف الدعاء.
تتّسع عينا المذيعة دهشةً، تكاد تضحك قبل أن تتذكّر أنها على الهواء.
وفي المقهى، تنفجر موجةٌ من الضحك، تمتزج بتعليقاتٍ لاذعةٍ وشتائم مكتومة، كأنها تطلق من زمنٍ منسيّ. يقول أحد الجالسين بصوتٍ عالٍ:
-إنه لا يُلام. من يلام ذاك الذي أوصله إلى الكرسي! فيردّ آخر بحسرة:
-وأكثر من يلام أولئك الذين انتخبوا من أتى به... هم أصل الحكاية!
يسود صمتٌ قصير، تتبعه تنهيدةٌ جماعية، كأنَّ الضحك في البلاد لم يعد سوى طريقةٍ أنيقةٍ للبكاء المؤجَّل.
يهزّ حسيب رأسه بأسى، يمسح العرق عن جبينه، ثم يعيد ترتيب أحجار الدومينو كمن يحاول ترميم خرابٍ لا يُرمَّم، وبصوتٍ مبحوحٍ يقول: نلعب؟
يأخذ صلاح حصّته من الأحجار، يتأمّلها طويلاً، ثم يهمس بابتسامةٍ ساخرة:
-لنلعب... فالقواعد واحدة، والطاولات كثيرة، واللاعبون هم أنفسهم، وكذلك المقاعد والتخوت. يُمعن النظر في الأحجار البيضاء المصطفّة أمامه، كأنها خارطةُ بلدٍ يُعاد ترتيبها كلَّ أربع سنوات لتواصل غفوتها.
يغوص بعيدًا في التفكير، حتى يفاجئه صوتُ حجرٍ يرتطم بخشب الطاولة، يتبعه صياح لاعبٍ في الجوار:
ــ قفلت!
يرفع رأسه نحو الصوت، فيجيبه آخرُ من طاولةٍ أخرى: نعم... هكذا هو الحال.
***

744 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع