منصف الوهايبي / تونس
في الشعر العراقي الحديث: القصيدة السيرة
هذا الكتاب «سيرة الشاعر وسيرة القصيدة» لضياء خضير(اتحاد الكتاب والأدباء ، العراق 2025)، عمل نقدي تطبيقي متميز حقا، في زمن ضمر فيه النقد، وحل محله التنظير الذي أفسده قليلا أو كثيرا؛ وتحول فيه الشاعر إلى ناقد من أجل تبيين الوشائج بين سيرته وسيرة قصيدته، كما يذكر الكاتب في المقدمة؛ من خلال نماذج في الشعر العراقي الحديث تتفاوت في تقديري قوة وضعفا، سواء تعلقت بالشعر أو بالنقد أو بهما معا، وهي التي تنضوي كلها إلى ما أسميه «المدرسة العراقية»: علي جعفر العلاق وسامي مهدي وحاتم الصكر وخالد علي مصطفى وياسين النصير وسعدي يوسف وحميد سعيد وحسب الشيخ جعفر وعبد الرزاق عبد الواحد وبشرى البستاني وعبد المنعم حمندي وعدنان الصائغ وعبد الرزاق الربيعي وإبراهيم الماس وحسن عيسى الياسري…
وقد تخيرها صديقنا ضياء بموضوعية الباحث العالم، من غير أن يقتصر على شاعر دون آخر، أو جيل دون جيل، أو لون سياسي أو أيديولوجي دون غيره؛ وبحذر علمي مرده إلى أن الكلام الشعري ذو طبيعة تخييلية. وهو ما يقتضي التريث في الوصل بين سيرة النص وسيرة صاحبه. والكتاب دون خوض في أقسامه المتنوعة، وكل منها يحتاج إلى وقفة خاصة، يعالج ما نصطلح عليه حديثا بـ»الخطاب».
ومن نافل القول التذكير بأن لـ»البعد اللغوي» في القصيدة، الصدر دون سائر المكونات، إذ يُعرف الشعر في الأعم الأغلب، باستخدامه الخاص للغة؛ أي بمعنى «الفرق» عن اللغة المتداولة، أو «المحكية»، وهو على ما ندركه من هذا العمل، حد غير دقيق، إذ كثيرا ما يتلفت هذا الشعر أو ذاك ناحية النثر، فيطعم قصيدته بسردية خاطفة أو مطولة، وبمفردات اليومي والمعيش، ويخلصها من الإسراف في التنغيم، دون أن يمنعها ذلك من أن تكون نصاً شعرياً «إنشاديا»، وهو الذي يعيد تركيبها في الميديوم/الوسيط الشعري؛ سواء في «شعر التفعيلة» أو «قصيدة النثر» ـ على قلق المصطلحين، في نصوص تحتفي بتماثلات الصوت والإيقاع والصورة، وهي من مظاهر كثافة اللغة الشعرية أو سُمكها. وإنشاء القصيدة شأنه شأن نقدها، يقوم على وضع عناصرها في سياق نظام ما (بناء الجمل أو الأبيات والمقاطع والقوافي…) فالقصيدة نظام مخصوص من الكلمات، تتردد فيه أصداء من سيرة الشاعر، أو من مواقفه كما في القسم المخصوص بسامي مهدي وموقفه من ثقافة السياب، أو من ريادة نهاد التكرلي للنقد العراقي الحديث، أو القسم المخصوص بحاتم الصكر، أو بالعلاق وهو الذي بُنِي عليه العمل، ومنه تتولد في تأصل وتفرع بقية الأقسام. وهذا النظام/ الأنظمة هو الذي يستكشفه الناقد، بشتى مؤتلفاته ومختلفاته، وما يعقده بعضها ببعض، من علائق شد وجذب؛ بحرص العالم على التزام ضوابط النقد وأصوله، واستيفاء الموضوع المدروس حقه، فهو يستعرض مجمل الجهود التي بذلها هذا الشاعر أو ذاك، أو هذا الناقد أو ذاك، دون أن يغفل الرهانَ المطروح عليه وهو، «سيرة القصيدة/ سيرة الشاعر»، أو «القصيدة السيرة» باختزال أو باعتماد «الوصف بالمصدر»، خاصة ما يتعلق منه بهذه القضايا اللغوية الشعرية الشائكة، التي يثيرها الشعر العربي الحديث عامة وليس العراقي وحده.
والناقد وهو عالم كبير بالشعر وخفاياه وصاحب ثقافة موسوعية، لا يسلم بما يقوله الشعراء أو النقاد، دون سند من اختبار النصوص والاستئناس بها. على أن هذا العمل وإن تخير له صاحبه عنوانا دالا، إنما موضوعه «الخطاب الواصف» أو «الشعر على الشعر»، خاصة عند الشعراء النقاد مثل العلاق وسامي مهدي خاصة. وهو في كل هذه الأقسام أو جله، يحلل هذا الخطاب الذي يشير إلى تفكير الذات المتكلمة في نصها وطريقتها في أدائه، ونتبين منه كيف أن القراءة نفسها هي استئناف لإنشائية الأثر، وأن الأثر الشعري هو في صميمه ذو طبيعة «قرائية»؛ أي هو لا ينشأ كتابةً أو تنغيما؛ ثم يُقرأ. وإنما هو ينشأ منذ البداية «قرائيا»، حسب ما تمليه عليه طبيعة جنسه، وحسب ما يستعيره من عناصر من الأجناس الأخرى، فلا يمكن أن نغفل في شعر الشاعر العراقي الحديث مظاهر مثل، التراسل أو التجاوب أو التناص.
وما دام الشعر يتسع لهذه الظواهر سواء تعلقت بشعرية الدال، أو بشعرية المدلول، فلا ضير، في تقديرنا أن نصل بعضها ببعض، وأن نتنبه إلى أن منبتها الأصلي هو الشعر نفسه، حتى إن تعلق بسيرة صاحبه. لقد استثمر ضياء خضير ما أتاحته لها معرفته العميقة بالنقد والشعر معا، في تعليل كثير من ظواهر هذا الشعر العراقي الحديث، وأن يفتتح مداخل قرائية في «القصيدة السيرة» وهو يستنطق النصوص، ويحتكم إلى الوشائج الصامتة التي تشد بعضها إلى بعض، دون أن يتحرر من الجهد الذي يقتضيه الاشتغال النظري.
وأقدر أن مزية هذا العمل تنطوي على سؤال قد يغفله النقد العراقي عامة أو ما تبقى منه، أو يتحاشاه، هو: كيف نقرأ الشعر العراقي الآن؟ وأقصد هذا الشعر الذي «فقد» ريادته منذ رحيل كباره من «المؤسسين» الذين تعلمنا منهم؛ وهو سؤال الراهن الثقافي العراقي بكل ملابساته: الشاعر/الآن/هنا، من منظور إعادة ترتيب العلاقة بالنص والسيرة معا، أو ما نسميه الخطاب، في حيز الذات المنشئة. والمسوغ لذلك أن الخطاب يعقد علاقة مخصوصة بالذات المنشئة، سواء من خلال اللغة المشتركة، أو من خلال ما يسميه المعاصرون «مغامرة لغوية» أو»مختبرا لغويا». إذ يصعب دون ذلك، أن نفسر كيف يكتسب هذا النص مزيته أو تفرده، ويبني إيقاعه الخاص. ولكن هذا الخطاب مهما يكن تفرده، ليس ثمرة عقل خاص أو نفس خاصة فحسب، وإنما هو ثمرة نصوص أخرى أيضا تتحدر إليه من أكثر من صوب، وتتردد في جوانبه مجهورة حينا، مهموسة حينا، ما يراكم خطابا فوق خطاب، وإيقاعا على إيقاع.
ومن هذا الجانب أقدر أن ترتيب العلاقة بالنص ـ أي نص ـ في ضوء مفهوم «التلفظ» يمكن أن يعين على فهم صفة التفاوت، تفاوت الإنشائية في النص وعدم اطرادها على نسق واحد، بل ربما يعين في حدود قد تتسع وقد تضيق، على إدراك الأفكار المتصرفة بالذات أو بالشعر العراقي في حقبة مخصوصة من تاريخه، وقد تكون في غاية الدقة والتعقيد، بحيث لا يملك الباحث أو القارئ إلا أن يقف على حدودها دون أن يقدر على السير في مجاهلها؛ إلا إذا قبل أن يحتال بالنص وله في كثير أو قليل من الدقة وكثير أو قليل من حسن التأتي، ويقيم قراءته على وقائع خاصة، وهو يوزع ظلا هنا وضوءا هناك، عسى أن يحفظ للذات المنشئة نوعا من الاتساق ويظهر لنا بذلك سير التفاعل بين الشخصية وأثرها، أو كيف تأثرت ببيئتها وعصرها. وقد نحجب دون ذلك عن طابع النص «الاستثنائي» ونجحف بحق معناه أو دلالته. على إقرارنا بأن الشعر لا يمكن أن يكون موضوعا للسيرة الشخصية بحكم طبيعته «التخييلية»، أو أن يكون مصدرا لها. والعالم الخارجي يلتبس في الشعر/ الشعر ويشكل على صاحب المعرفة المنظمة، بفعل احتجابه ضمن الاستعارة والمجاز وشتى ضروب البيان، وهي المجاري التي يحفرها الشعر في الأسطورة والدين، وفي ضروب غيرهما من رؤى الإنسان للعالم؛ وكأنما المعرفة الشعرية تنزع إلى تبديد اندهاشها باختراق هذه الحجب. ولكن هيهات فالعالم الذي يستوعبه الشعر في هذه الرؤى هو عالم الشعر ذاته وليس «آخره» أوَليست الحقيقة التي ينشدها الشعر مثلما تنشدها المعرفة، حقيقة هي في الأصل نسيان لحقيقة أخرى؟ أليست هذه الحقيقة هي ما يحسه الشعر ذاته؟ إذن هذا الآخر الذي تفترضه المعرفة آخـَر ليس له وجود سابق على دفقة الشعر، وإنما هو مجترَح منها اجتراحا. ودوّن كثير من الحجاج، على ضرورة ذلك، أقول إن المعرفة حسبما ندركه من هذا الكتاب الممتع المؤنس، يستغرقها الشعر، كلما سعت إلى أن تتقاطع معه؛ طالما أنها تدور في فلك مخلوقاته؛ أو في هذا «الرسم الخيالي» مراوحا بين المعنى المجرد والإدراك، وبين سيرة النص وسيرة صاحبه؛ وما قد يكون بينهما من فروق دقيقة وظلال خفية.
والربط بين الخيال والصورة في النقد مما لا يخفى، والاشتقاق بينهما واحد؛ وهو من الشائع المبذول. وقد تنبه غير واحد من العرب المعاصرين إلى أن وشائج القربى بين هذين تكاد تكون معدومة في النقد العربي القديم؛ على الرغم من لمْح الصلة الذي نستشعره في مادة «خيل» في لسان العرب، وقسْ على ذلك أمر الصورة لغة، وحدا فلسفيا، من حيث هي النوع والشكل والصيغة والهيئة والنظام والصفة والشبح والمثال والشبيه المتخيل في المرآة، أو ما أثبته الجرجاني بخصوص الصورة، من حيث هي نظم المعنى وصياغته وإخراجه في القول على هيئة مخصوصة وتأليف محدد وترتيب معين.
بفعل احتجابه ضمن الاستعارة والمجاز وشتى ضروب البيان، وهي المجاري التي يحفرها الشعر في الأسطورة والدين، وفي ضروب غيرهما من رؤى الإنسان للعالم؛ وكأنما المعرفة الشعرية تنزع إلى تبديد اندهاشها باختراق هذه الحجب. ولكن هيهات فالعالم الذي يستوعبه الشعر في هذه الرؤى هو عالم الشعر ذاته وليس «آخره» أوَليست الحقيقة التي ينشدها الشعر مثلما تنشدها المعرفة، حقيقة هي في الأصل نسيان لحقيقة أخرى؟ أليست هذه الحقيقة هي ما يحسه الشعر ذاته؟ إذن هذا الآخر الذي تفترضه المعرفة آخـَر ليس له وجود سابق على دفقة الشعر، وإنما هو مجترَح منها اجتراحا. ودوّن كثير من الحجاج، على ضرورة ذلك، أقول إن المعرفة حسبما ندركه من هذا الكتاب الممتع المؤنس، يستغرقها الشعر، كلما سعت إلى أن تتقاطع معه؛ طالما أنها تدور في فلك مخلوقاته؛ أو في هذا «الرسم الخيالي» مراوحا بين المعنى المجرد والإدراك، وبين سيرة النص وسيرة صاحبه؛ وما قد يكون بينهما من فروق دقيقة وظلال خفية.
والربط بين الخيال والصورة في النقد مما لا يخفى، والاشتقاق بينهما واحد؛ وهو من الشائع المبذول. وقد تنبه غير واحد من العرب المعاصرين إلى أن وشائج القربى بين هذين تكاد تكون معدومة في النقد العربي القديم؛ على الرغم من لمْح الصلة الذي نستشعره في مادة «خيل» في لسان العرب، وقسْ على ذلك أمر الصورة لغة، وحدا فلسفيا، من حيث هي النوع والشكل والصيغة والهيئة والنظام والصفة والشبح والمثال والشبيه المتخيل في المرآة، أو ما أثبته الجرجاني بخصوص الصورة، من حيث هي نظم المعنى وصياغته وإخراجه في القول على هيئة مخصوصة وتأليف محدد وترتيب معين.
806 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع