عرفت الفقيد معرفة أكاديمية قبل الاحتلال وحين عرفته كنت قد وصلت إلى قناعة مطلقة أن الفقيد لا يزال تلميذا يبحث عن فهم واضح و واسع للتعامل مع التاريخ كسجل للأحداث يتم تقييمها من وجهات نظر مختلفة و زوايا متعددة ،
لذلك لا يجد الفقيد فيصل فهمي سعيد مشكلة في سرد الأحداث وهو القارئ في أبعاد الحدث بشهية لا حدود لها والباحث في حقائق الأحداث بهمة لا مثيل والواصف والحافظ والنابش عن كيفية وجذور الحدث وكيف وقع والشواهد على تفاصيل ودقائق وقوعه ، إذا كان هذا التوصيف هو صلب التاريخ كعلم فإن الفقيد فيصل فهمي سعيد مؤرخ موسوعي وحافظ لحقائق التاريخ المعاصر بجدارة ونزاهة ومصداقية لا يسبقه في هذا المضمار باحث من أقران عصره .
لكنَّ المرحوم الفقيد فيصل فهمي سعيد لا يحسب التاريخ كذلك وهو في تقييمه لذاته لا يجد نفسه مؤرخا بل يحسب نفسه تلميذا في دراسة الحدث لماذا حصل وماذا لو لم يحصل غارق في أعماق الحدث لا يغمض له جفن ولا مقام أو مكان إن لم يوفق في استيفاء الحدث من جميع جوانبه. على عكس ما تم التوافق عليه بين المؤرخين من أن التاريخ يعيد أو يكرر نفسه ، يعتقد الفقيد أن التاريخ لو تم البحث بدقة أحداثه لأتضح انه يفسر كذلك بسبب ضيق الأفق الذي تقرؤ به هذه الأحداث لتبدو وكأنها متكررة، وإلا فإن المفترض أن يكون استلهام التاريخ وفهمه من زواياه المتعددة حائلا بالأساس دون أن تتكرر أحداثه .
من هذا المنظار نجد أن الفقيد لا يؤمن بالمسلًّمة أو البديهة التاريخية وقد يكون له أكثر من تفسير للظاهرة التاريخية الواحدة بمرور الزمن ، وهذا ما يفسر عزفه عن التأليف والانصراف الى البحث والقراءة والحوار مهتما بالتجديد وهو في داخل ذاته تواق بشكل دائم ومستمر على ترسيخ التاريخ من أجل انبعاث الأمة وتجديد فكرها وتجاوز ما يعتريها من خلل في الرقي وقصور في الفهم بسبب حالة القنوط والجمود والإحتواء الذي أصابها وتسبب في تخلفها ، وأعجبني نعته من قبل أحد الأصدقاء بسبب عزوفه عن التأليف ب ( المؤرخ الشفاهي ).
زدت اتصالا وتوثقا بالعلاقة مع فيصل فهمي سعيد بعد غزو العراق مباشرة ، تحول حينها الفقيد الى خلية نشاط فاعلة وسبب ذلك ان أدرك حجم الحدث وتوقع مخاطره وأبعاد خلخلته وزلزاله ، وبحكم علاقتي به وبشكل مبكر كنا نقضي ساعات طويلة للتفكير باسلوب العمل من أجل تجنب الكارثة والنتائج الوخيمة التي ألقت بظلالها على العراق المحتل وتكثفت اللقاءات معه ومع العديد من المعنيين والمهتمين بما حدث تارة في داري وتارة في دار المرحوم صبحي عبد الحميد أو المرحوم ناجي طالب أو عبد الكريم هاني أو وميض عمر نظمي أو في لقاءات وندوات متكررة ، كان أبرز ما تقدم به من اقتراحات في أول ندوة حول الاحتلال في داري وبحضور اكثر من ثلاثين من الشخوص الوطنية في نهاية نيسان 2003 هو ضرورة إصدار بيان عن الندوة كان له صداه برفض مبكر للاحتلال جملة وتفصيلا وبضرورة تشكيل تيار عروبي وطني وإصدار صحيفة وطنيىة كبداية لمشروع وطني كان رحمه الله يحلم ان يكون مشروع تحرير وخلاص . لا غبار على صفحة فيصل فهمي سعيد الوطنية والقومية وفي التصدي للاحتلال والاستعمار بإصرار وعزيمة وشكيمة ، كيف لا يكون كذلك وهو سليل العنبكية من عبادة والابن البكر للثائر العقيد الشهيد فهمي سعيد رحمه الله، أحد أقطاب المربع الذهبي بوجه الاحتلال البريطاني عام 1941، ولا أقول مايس لأن فيصل فهمي سعيد ينكر ان يكون هذا التاريخ هو تاريخ ثورة الضباط الأحرار !. فالفقيد يتذكر وهو مواليد عام 1934كيف سجن واعدم والده الشهيد عام 1942.
فقدنا بوفاة المرحوم فيصل فهمي سعيد شخصية وطنية وتاريخية وفكرية كان لها حضورها وقولها وفعلها في كل نادٍ وساحةٍ وملتقى ، كانت زياراته المتكررة لي في ديواني عندما يكون في عمان وأحاديثه ونقاشاته مصدر إشعاع وعزيمة وحكمة ، وكان آخر ما توصل اليه من نقاء فكري وصميمي لبعث الأمة هو مناداته بالانبعاث العربي المحمدي المتجدد بروح العصر لتحقيق النهضة والارتقاء .
رحم الله أبا يعرب وفهمي وأدخله فسيح جناته ، وعوضنا بفقده ما ترك لنا من دماثة الخلق و وضوح الرؤيا وحسن تربية أبنائه وخلفه ، وألهم عائلته وذويه وأصدقاءه ومعارفه وتلامذته وطلابه الصبر والسلوان .
867 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع