مجتمع في مرآة الخضوع … حين يبتلى الوعي بالوهن

افرام الغساني

مجتمع في مرآة الخضوع… حين يبتلى الوعي بالوهن

لم يكن الابتلاء الذي أصاب مجتمعنا ابتلاءً عادياً يمكن تجاوزه بالزمن، بل كان ابتلاءً تسلّل إلى جوهر الوعي نفسه، فأربك البوصلة التي طالما وجّهت أبناءه صوب الإصلاح والنهضة، فأضعف القدرة على التمييز بين الصوت الحقّ والصخب الزائف، وبين المبادرة البناءة والانفعال الهامشي. فقد عرف هذا المجتمع ـ في محطاته اللامعة ـ كيف يثور للحق، ويستنفر ضميره دفاعاً عن قيمه، ويُنصت لأصوات المصلحين والمتنورين الذين كانوا يشكلون عقله الجمعي وروحه الحيّة، ويزرعون فيه ثقافة السؤال والشكّ الواعي، والرفض المدروس لكل ما يُقوّض مقوماته الأخلاقية والفكرية. لكن الأعوام المتراكمة أرهقت تلك الروح، وأدخلت المجتمع في سلسلة طويلة من التحولات التي مزّقت قدرته على الفعل، حتى غدا كثيرٌ من أبنائه أسرى الإنهاك النفسي والاجتماعي، مستسلمين لصمتٍ ثقيل لا يشبه ماضيهم ولا يليق بتاريخهم المجيد.
تمدّد الخضوع في مساحات الفكر، واستوطنت أمراض التسليم في مواضع كانت ذات يوم مسارح للوعي الحر، وحينها لم يعد من الممكن الفصل بين الانكسار الأخلاقي والضمور الفكري، بين موت الشجاعة وهشاشة القرارات، وبين ضياع المبادئ وتراجع روح المبادرة. وبدل أن يُستجاب لأهل الرشد والبصيرة، صعدت إلى السطح وجوهٌ لم تصنع مجداً ولم تقدّم مشروعاً، بل صنعت لنفسها وهماً مصقولاً، تدعمه ثقافة منحرفة ترفع السوقة والجهلة والمدّعين إلى مقام القيادة، وتقصي أصحاب الحكمة والعلم والصوت النظيف. فغدت النخب المزيفة تحكم المشهد بسطوة الانطباع لا بمقدار الحقائق، وازدادت الهوّة بين الوعي الجمعي والتوجيه العقلاني، وبين ما يريده المجتمع حقاً وما يُفرض عليه خارج قناعاته.
هكذا تحوّل المجتمع، شيئاً فشيئاً، من جماعة تستنفر أسئلتها لتصنع مصيرها، إلى جماعة تخشى السؤال وتبحث عن من يمنحها الطمأنينة الزائفة، حتى لو جاء ذلك على حساب قيمها الكبرى، فتصبح أسئلة الحرية والعدالة والمساءلة أضحوكة في سياق التواطؤ الاجتماعي على الضعف والفشل. ولم يكن انطفاء الأسئلة مجرد تراجع فكري، بل كان دلالة على موت الإرادة وضمور الشجاعة وغياب الحس الأخلاقي الذي ينهض عليه كل إصلاح، وها هي الإرادة الجمعية تنهار أمام ثقافة الخنوع المتجذرة، ويصبح الناس مجرد كتلة تتحرك بانفعالها لا ببصيرتها، وتُقاد بالضجيج لا بالحجة، بالسطحية لا بالتحليل، بالهوس اللحظي لا بالمشروع الطويل.
مع هذا الانحدار، وجد المصلحون أنفسهم عند أطراف المشهد، يدفعون ثمن صدقهم لأنهم لم يجيدوا لعبة الادعاء ولم يسايروا تزييف الوعي، فصارت الكفاءة عبئاً، والوضوح خطراً، والنية الصالحة سبباً للتهميش، وكأن المجتمع في لحظته المريضة يعادي ما ينفعه، ويمنح ثقته لمن يملك الصخب لا من يملك الرؤية، لمن يملأ الساحة صوتاً بلا مضمون، لا لمن يملأها حكمةً وعملًا رشيداً. لكن التاريخ يثبت دائماً أن الأمم لا تُبنى بالوجوه اللامعة صوتاً والخاوية مضموناً، بل تُبنى بالقلوب التي تحمل مشروعاً، وبالعقول التي لا ترى الإصلاح خياراً بل واجباً، وبالإرادة التي تقرّ بأن التغيير يتطلب صبرًا وصمودًا والتزاماً أخلاقياً عميقاً.

إن ما نعيشه اليوم ليس انهياراً نهائياً ولا فرصة ضائعة، بل امتحان طويل يكشف العطب العميق في وعينا، ويفرض علينا أن نعيد ترتيب سلم القيم، وإحياء فضيلة السؤال، وأن ننهض من جديد لإعادة الاعتبار للمعرفة والصدق والجرأة الفكرية، ولتطهير المشهد من ثقافة الخنوع التي جعلت المجتمع يمشي خلف الضوضاء ويُسكت ضوءه الداخلي، ولإعادة الاعتبار للقيادة الرشيدة التي تزرع القيم ولا تخاف الحقيقة، والتي تجعل من الإصلاح التزامًا جماعياً لا امتداداً شخصياً.
فالمجتمعات التي تصرّ على أن تفهم، وأن تُحاسب، وأن تختار، لا يستطيع أحد أن يحولها إلى قطيع؛ أما حين تستسلم، فإنها تمنح الآخرين فرصة لقيادتها خارج الطريق، لا لأنهم أقوى، بل لأنها نسيت قوتها الأساسية: قوة الوعي، وحيوية السؤال، وجرأة المبادرة، وروح المسؤولية التي تصنع الفرق بين مجتمع يمشي إلى الهلاك، وبين مجتمع ينهض ليعيد صياغة نفسه تاريخياً وفكرياً وأخلاقياً.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1328 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع