أ.د. ضياء نافع
انعقد في موسكو للفترة من 9 الى 11 ايلول / سبتمبر 2016 المؤتمر العالمي الرابع لمترجمي الادب الروسي , والذي نظمه ورعاه معهد الترجمة في روسيا الاتحادية , وشارك في اعماله الكثير من مترجمي العالم , ثم أعقبه رأسا للفترة من 12 الى 14 ايلول / سبتمبر لقاء طريف بعنوان – المدرسة الروسية – العربية للمترجمين الشباب , شارك فيه الجانبان الروسي والعربي من الذين ساهموا في المؤتمر الرابع المذكور مع ضيوف جدد من المستشرقين الروس.
لا يمكن بالطبع الحديث عن خلاصة البحوث التي استمعنا اليها من مترجمي العالم في هذا المؤتمر اذ انها واسعة ومتنوعة وتحتاج الى عدة مقالات , ولكني اود التوقف قليلا هنا عند نقطة أثارت انتباهي - قبل كل شئ - في اعمال هذا المؤتمرالعالمي واللقاء الروسي - العربي الذي اعقبه
وهي قضية الترجمة الادبية عبر لغات وسيطة . تحدث بعض المشاركين حول هذه النقطة بالذات , وكان مجمل حديثهم بشكل عام ايجابيا بشأنها . أشار الجميع الى ان هذه الظاهرة في الترجمة تعكس الواقع الثقافي الحقيقي السائد في البلد , الذي لا توجد فيه تلك الكوادر الثقافية المتكاملة لتحقيق الترجمة المباشرة ( اي عن اللغة الاصلية مباشرة), وبالتالي فان الترجمة عبر لغة وسيطة تكون البديل الوحيد , لانها تساهم – بشكل او بآخر - في عملية الاطلاع على الادآب العالمية الاخرى وتوسيع معرفة القارئ بالجوانب الثقافية والحضارية الموجودة في العالم . وقد سألت أحد الذين تحدثوا في هذا الشأن بالذات عن موقف النقد الادبي عندهم تجاه هذه الظاهرة , فقال ان مستوى الترجمة باللغة القومية هو الذي يحدد الموقف الحاسم تجاهها ( اي الموهبة والكفاءة الذاتية لكل مترجم ) , و ان النقد الادبي اولا وأخيرا ينطلق من جودة النص الذي يقدمه المترجم , اضافة الى ان هذا النقد يبحث ايضا عن اوليات تلك الترجمات باللغة الوسيطة نفسها ومستوياتها وموضوعيتها ...الخ , اذ ان هذا الجانب مهم ايضا وينعكس على العمل الترجمي نفسه بلا شك , وباختصار فان النقد الادبي يأخذ كل هذه العوامل مجتمعة بنظر الاعتبار عندما يتناول الاعمال الترجمية عبر اللغات الوسيطة .
لقد ازدادت قناعتي بالترجمة الوسيطة فعلا عند استماعي الى تلك الآراء حولها من قبل مترجمين عالميين لهم باع كبير وطويل كما يقال في عملية الترجمة الادبية في بلادهم , وتذكرت المواقف ( المتشنجة جدا والمحسومة مسبقا وهنا تكمن المأساة !) تجاه الترجمة الوسيطة في العراق , والتي كانت تنطلق من النظرة العامة الساذجة و السائدة نحوها هناك , حيث ( يضيع الاخضر بسعر اليابس !) كما يقول المثل الشعبي الجميل والحكيم , وتذكرت بعض حواراتي ونقاشاتي مع بعض (مسؤولي الترجمة !) في العراق في سبعينات وثمانينات القرن الماضي , وكيف انهم لم يستطيعوا الاجابة حتى عن ابسط الاسئلة التي طرحتها عليهم آنذاك في هذا الخصوص , مثل – ( وكيف باستطاعتنا ان نتعرٌف على الادب الصيني والياباني والهندي والفيتنامي و حتى آداب حضاراتنا القديمة في وادي الرافدين ومصر و اليونان وووو..لولا الترجمة الوسيطة تلك , والتي قام بها مترجمون كبار؟), ولم يتحدثوا طبعا عن حل مقترح لكل هذه الاشكالات ولا عن البديل الواقعي الممكن لذلك .
تحدث بعض المساهمين العرب في هذا المؤتمر حول هذه النقطة ايضا , ولكن حديثهم كان عاما جدا وبدون التعمق والدخول في التفاصيل الدقيقة للموضوع , اذ انهم ذكروا في كلماتهم ومداخلاتهم اسماء المترجمين العرب للادب الروسي مثلا عبر لغات وسيطة , مؤكدين على جانب احادي فيها وهو - عدم الدقة في بعض تلك الترجمات هنا وهناك ( مثل كتابة الاسماء مثلا ) , دون التوقف المعمق والموضوعي والشامل عند اهمية هذه الظاهرة وقيمتها في مسيرة الثقافة العربية المعاصرة في فترة معينة من تطورها, وقد شمل ذلك الحديث ( وبنفس تلك الروحية غير الموضوعية مع الاسف الشديد ) حتى عندما كان الموضوع يدور حول مساهمات عملاق الترجمات الوسيطة في تاريخ الترجمة الى العربية وهو الدكتور سامي الدروبي ( 1921- 1976) ودوره في ترجمة الادب الروسي الى العربية عبر اللغة الفرنسية , اذ تمت الاشارة الى بعض الامثلة غير الموفقة عنده من وجهة نظرهم طبعا, وهي امثلة نادرة جدا وسط تلك الكمية الهائلة والمدهشة من الاعمال الترجمية التي قدمها الدروبي للادب العربي الحديث ( يكفي الاشارة الى ان من بينها المؤلفات الكاملة لدستويفسكي !! ) , والذي جعله يشغل المكانة الاولى في عالم الترجمة الادبية العربية ولحد الان وبكل جدارة واستحقاق . كم اتمنى ان يعقد المترجمون العرب ندوة خاصة مكرسة لدراسة النتاجات الترجمية التي اعطاها لنا هذا المترجم الكبير, كي يحددوا بموضوعية وعلمية رصينة دور الدروبي في مسيرة حركة الترجمة في عالمنا العربي ويبينوا ما له وما عليه باعتباره ظاهرة كبيرة في تاريخ الترجمة في عصرنا الحديث , اضافة الى ان مثل هذه الندوة تعني من جانب آخر وبلا شك الاعتراف الرسمي بالترجمة الوسيطة باعتبارها الوسيلة الوحيدة للعرب في الوقت الحاضر لمواصلة الاطلاع على الاداب العالمية والتفاعل الحي معها .
651 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع