
المهندس علاء سمير راشد
دراسة تحسين وثوقية التغذية الذاتية في المحطات الكهربائية
تعد التغذية الذاتية في المحطات الكهربائية أحد العناصر الأساسية التي تضمن استمرارية عمل أنظمة القدرة والتحكم والحماية داخل المحطة، إذ تعتمد عليها منظومات التشغيل المساندة مثل أجهزة التحكم والقياس والحماية والإضاءة الداخلية ومضخات التبريد والتهوية وغيرها من الأحمال الحيوية. وتمثل هذه التغذية ما يسمى بمنظومة الخدمات الكهربائية الذاتية أو التغذية المساعدة، وهي عادة ما تكون مرتبطة مباشرة بمصادر القدرة الرئيسة أو بمصادر بديلة مهيأة للدخول إلى الخدمة عند حدوث أي خلل في المصدر الأساسي. ومن هنا تنشأ أهمية دراسة تحسين وثوقية هذه المنظومة، لأن أي انقطاع أو قصور في التغذية الذاتية قد يؤدي إلى توقف وحدات التوليد أو المحولات الرئيسة، وما يترتب عليه من خسائر فنية واقتصادية كبيرة وتأثيرات سلبية على استقرار الشبكة الكهربائية ككل.
إن مفهوم الوثوقية في التغذية الذاتية يعني قدرة المنظومة على الاستمرار في تزويد الأحمال المساندة بالطاقة الكهربائية المطلوبة دون انقطاع، أو بحد أدنى من الانقطاعات المسموح بها، مع سرعة الاستجابة للتغيرات والطارئات. وتتداخل في هذا المفهوم عدة عناصر، منها توافر أكثر من مصدر للتغذية، وطريقة ترتيب هذه المصادر، ومستوى العزل والحماية، وطبيعة الأحمال المربوطة، ونوعية معدات التبديل والتحكم، إضافة إلى برامج الصيانة والمتابعة الدورية. وكلما كانت منظومة التغذية الذاتية مصممة على أساس التكرار والازدواجية والمرونة، ازدادت وثوقيتها وانخفض احتمال فقدان التغذية عن الأنظمة الحساسة في المحطة.
تعتمد منظومة التغذية الذاتية في المحطات الكهربائية على مصادر متعددة يمكن تشغيلها بأساليب مختلفة، فقد يكون المصدر الأساسي هو محولات الخدمات الذاتية المرتبطة بقضبان الجهد المتوسط داخل المحطة، بينما يكون المصدر الاحتياطي إما خطاً آخر من الشبكة أو مولداً احتياطياً يعمل بالديزل أو الغاز أو أي وقود آخر. كما يمكن استخدام وحدات عدم انقطاع القدرة لتغذية الأحمال الإلكترونية الدقيقة وأنظمة التحكم الرقمي، مع ربطها بمصادر متعددة لضمان استمرارية عملها عند حدوث أي اضطراب في الجهد أو التردد. ويُعد حسن اختيار هذه المصادر وترتيب أولويات التشغيل والتحويل بينها من أهم العوامل المؤثرة في وثوقية التغذية الذاتية.
تتأثر وثوقية التغذية الذاتية أيضاً بطبيعة الشبكة الداخلية للمحطة وكيفية توزيع الأحمال المساعدة على المغذيات والقضبان، فكلما كانت الشبكة مصممة بطريقة تقلل من نقاط الضعف وتحد من انتشار الأعطال، ازدادت قدرتها على الاستمرار في العمل حتى في حال خروج جزء من المنظومة عن الخدمة. ولهذا يتم في كثير من المحطات تقسيم الأحمال المساندة إلى مجموعات موزعة على أكثر من لوحة توزيع، مع توفير قواطع تحويلية تسمح بنقل الحمل من مصدر إلى آخر دون الحاجة إلى فصل كامل، إضافة إلى اعتماد فلسفة "عدم فقدان وحدة التوليد بسبب عطل في الخدمات الذاتية" التي تشترط أن يكون فشل أحد المصادر أو المغذيات غير كافٍ لإخراج الوحدة عن الخدمة.
من أجل تحسين وثوقية التغذية الذاتية، تُستخدم عدة أساليب هندسية وتقنية تبدأ من مرحلة التصميم ولا تنتهي عند التشغيل والصيانة. ففي مرحلة التصميم، يتم حساب الأحمال المساندة بدقة، وتحديد قدرتها الاسمية والذروية، ثم اختيار محولات الخدمات الذاتية والمغذيات ولوحات التوزيع على أساس تلبية هذه الأحمال مع مراعاة نموها المستقبلي. كما يؤخذ بنظر الاعتبار معامل الأمان ونسب التحميل المثلى، بحيث لا تعمل المعدات في حدودها القصوى بشكل مستمر، لأن ذلك يزيد من احتمال الأعطال ويقلل من العمر التشغيلي لها. ويتم أيضاً دراسة سيناريوهات خروج المصادر أو المغذيات من الخدمة، ووضع مخططات للتغذية البديلة تضمن قدرة المنظومة على تحمل هذه الحالات الطارئة.
أما في مرحلة التشغيل، فإن مراقبة أداء منظومة التغذية الذاتية تعتبر من أهم متطلبات الوثوقية. إذ يجب تسجيل الانقطاعات والفواقد والأعطال بشكل دقيق، وتحليل أسبابها، ومراقبة قيم الجهد والتيار ودرجات حرارة المحولات والقواطع والكابلات، فضلاً عن متابعة عمل المرحلات وأنظمة الحماية. ويساعد استخدام أنظمة الإشراف والتحكم وجمع البيانات على مستوى المحطة في توفير صورة مستمرة عن حالة منظومة الخدمات الذاتية، مما يتيح التدخل السريع قبل تطور الأعطال البسيطة إلى أعطال جسيمة قد تؤدي إلى فقدان كامل للتغذية عن الأحمال الحيوية.
تلعب أنظمة الحماية دوراً محورياً في تحسين وثوقية التغذية الذاتية في المحطات الكهربائية، فهي المسؤولة عن كشف الأعطال وعزلها في أقل وقت ممكن وبأدق نطاق مكاني. وكلما كانت منظومة الحماية مصممة وفق فلسفة ملائمة لطبيعة الشبكة الداخلية، قلَّ تأثير الأعطال على استمرارية التغذية. فعلى سبيل المثال، يمكن استخدام مرحلات انتقائية زمنياً وجهدياً لتحديد مكان العطل بدقة وعزل الجزء المتضرر فقط، مع إبقاء بقية الشبكة في الخدمة. كما أن التنسيق بين مرحلات الحماية وبين قواطع التحويل التلقائي للمصادر يساعد على إعادة التغذية الذاتية بسرعة فور زوال العطل أو انتقال الحمل إلى مصدر احتياطي دون تدخل يدوي.
من الجوانب المهمة أيضاً في تحسين وثوقية التغذية الذاتية، اعتماد مبدأ الازدواجية في المعدات والمغذيات. فوجود محولين للخدمات الذاتية، أو قضبان مزدوجة للجهد المتوسط، أو مغذيات متوازية للأحمال الحساسة، كلها أمثلة على تطبيق هذا المبدأ. إذ يسمح هذا التكرار بالاستمرار في تشغيل الأحمال حتى عند فشل أحد العناصر، ما دام العنصر الآخر قادراً على تحمل الحمل المطلوب. وتزداد أهمية الازدواجية كلما كانت الأحمال المساندة أكثر حساسية، مثل أنظمة التبريد للوحدات التوليدية، أو أنظمة الحماية والتحكم، أو منظومات الاتصالات داخل المحطة. ورغم أن هذا المبدأ يضيف كلفة استثمارية إضافية، إلا أنه يقلل من خسائر الانقطاعات غير المخطط لها، ما يجعله خياراً اقتصادياً مفضلاً على المدى البعيد.
إضافة إلى المعالجات التصميمية، يأتي دور الصيانة الدورية في تعزيز وثوقية التغذية الذاتية. فالصيانة الوقائية للمحولات ولوحات التوزيع والقواطع والكابلات تمنع تراكم العيوب البسيطة التي قد تتطور مع الزمن إلى أعطال خطيرة. وتشمل هذه الصيانة فحص العوازل، وقياس مقاومة العزل، والتحقق من إحكام التوصيلات، وتنظيف اللوحات من الغبار والرطوبة، وفحص عمل المرحلات وأجهزة القياس، وتجربة نظم التحويل التلقائي بين المصادر. كما يمكن استخدام تقنيات الصيانة المعتمدة على الحالة، والتي تعتمد على مراقبة المتغيرات التشغيلية وتحليلها لتحديد الوقت الأمثل لإجراء الصيانة، مما يؤمن وثوقية أعلى مع تقليل التوقفات غير الضرورية.
مع تطور التقنيات الرقمية وأنظمة التحكم الحديثة، أصبح من الممكن استخدام حلول متقدمة لتحسين وثوقية التغذية الذاتية في المحطات الكهربائية، مثل أنظمة التحكم الموزعة وأنظمة مراقبة الحالة اللحظية، وبرمجيات تحليل الوثوقية التي تحاكي سلوك المنظومة تحت ظروف تشغيل مختلفة. وتتيح هذه الحلول دراسة احتمالات الأعطال، وتأثير كل منها على استمرارية التغذية، ومن ثم اقتراح أفضل التعديلات التصميمية أو التشغيلية لرفع مستوى الوثوقية. كما يمكن دمج مصادر الطاقة المتجددة كوحدات مساندة محلية، لتغذية بعض الأحمال الذاتية في حالات الطوارئ، مثل استخدام الألواح الشمسية مع بطاريات التخزين لتغذية أنظمة التحكم والإضاءة الضرورية.
إن دراسة تحسين وثوقية التغذية الذاتية في المحطات الكهربائية لا تقتصر على الجوانب الفنية فقط، بل تمتد لتشمل الجوانب التنظيمية والبشرية. فوجود تعليمات تشغيلية واضحة، وإجراءات طوارئ محددة، وبرامج تدريب للعاملين على كيفية التعامل مع حالات فقدان التغذية أو تبديل المصادر، كلها عناصر تسهم في تعزيز الوثوقية. كما أن اعتماد أسلوب إدارة المخاطر يساعد في تحديد نقاط الضعف في منظومة التغذية الذاتية، ووضع خطط لمعالجتها قبل أن تتحول إلى مشكلات حقيقية. ويتطلب ذلك تعاوناً وثيقاً بين المهندسين والفنيين وإدارة المحطة لضمان تنفيذ الإجراءات المقترحة ومراجعتها بشكل دوري.
من منظور اقتصادي، يرتبط تحسين وثوقية التغذية الذاتية في المحطات الكهربائية بالحد من الكلف الناتجة عن الانقطاعات والأعطال، سواء على مستوى المحطة نفسها أو على مستوى الشبكة الوطنية. فخروج محطة توليد كبيرة عن الخدمة بسبب خلل في التغذية الذاتية قد يؤدي إلى فقدان جزء مهم من القدرة المنتجة، واضطرار المشغل إلى تشغيل وحدات أكثر كلفة أو اللجوء إلى قطع الأحمال عن بعض المستهلكين. لذلك فإن الاستثمار في تحسين وثوقية الخدمات الذاتية، من خلال التكرار في المصادر، وتحسين أنظمة الحماية، وتطوير الصيانة، يمثل استثماراً في استقرار النظام الكهربائي ككل وفي استدامة تزويد الطاقة للمستهلكين.
في ضوء ما تقدم، يمكن القول إن دراسة وتحسين وثوقية التغذية الذاتية في المحطات الكهربائية تمثل موضوعاً محورياً في هندسة القوى الكهربائية، لأنها تمس جوهر استمرارية عمل المحطة وقدرتها على أداء دورها في توليد أو تحويل الطاقة دون انقطاع. وتتطلب هذه الدراسة نظرة شمولية تجمع بين التصميم الجيد، والاختيار الدقيق للمعدات، وتطبيق مبادئ الازدواجية والمرونة في الشبكة الداخلية، إلى جانب أنظمة حماية متطورة، وبرامج صيانة فعالة، وإدارة واعية للمخاطر التشغيلية. ومن خلال هذه المنظومة المتكاملة من الإجراءات، يمكن الوصول إلى مستوى عالٍ من الوثوقية في التغذية الذاتية، ينعكس إيجاباً على أمن واستقرار المنظومة الكهربائية بأكملها.

678 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع