يا حوتة يا منحوتة … طلِّعي قمرنا العالي

إبراهيم فاضل الناصري

يا حوتة يا منحوتة… طلِّعي قمرنا العالي

يقينا انه في ذاكرة الشعوب المسحوقة، تختبئ أغانٍ طفوليةٌ لا تبدو في ظاهرها سوى لعبٍ بريءٍ، ولكنها في باطنها تحمل وجعًا أبعد من الكلمات. فحين يغني الأطفال في ليالي القرى القديمة: «يا حوتة يا منحوتة طلّعي قمرنا العالي»، فإنهم لا يدركون أنّهم يرددون نشيدَ الخلاص من ظلامٍ أثقل أرواح الكبار قبل الصغار. تلك الأغنية البسيطة كانت – دون أن تدري الأجيال – مرآةً للواقع، وصدىً لحلمٍ مؤجّلٍ ظلّ يراود الإنسان العربي وهو يترقّب قمرًا لا يُبتلع، وسماءً لا تستبدّ بها حوتةٌ تلتهم النور في كل زمانٍ ومكان. ومن هنا تنبع رمزية النصّ، بوصفه خطابًا وجدانيًا يطلّ على واقعٍ مثقلٍ بالخذلان، مفعمٍ بالأسى، متشبّثٍ مع ذلك بآخر خيوط الأمل.

فالاطفال البائسين في أغنيتهم التي طالما كانوا يرددونها في المساءات القديمة، تختبئ مأساةٌ كبرى لا يراها إلا من ذاق طعم الانتظار. يا حوتة يا منحوتة طلّعي قمرنا العالي — هكذا كانوا يغنّون ببراءةٍ ودهشة، غير مدركين أنّهم في الحقيقة ينشدون خلاص أمةٍ كاملةٍ ابتلعها الظلام.
فالحوتة في تلك الأغنية لم تكن مخلوقًا بحريًا أسطوريًا فحسب، بل صارت ظلّ الاستبداد وهو يلتفّ على رقاب الحلم، وصارت لسانَ كلّ سلطةٍ تخشى النور وتقتات على الخوف. أما القمر، ذاك الحالم البعيد، فهو رمز النقاء والأمل المعلّق في سماء الناس، هو وجههم حين يتهلّل بالحياة، ثم يخبو حين تبتلعه أنياب الحوتة.
وما بين الحوتة والقمر، تمتدّ قصة الإنسان الذي ما زال يفتّش عن ضوءٍ في بحرٍ لا ضفاف له. فكلّما أطلّ قمرٌ جديد، خرجت حوتةٌ أكبر لتلتهمه، كأنّ دورة التاريخ لا تُعيد سوى ليلٍ آخر. ولذا لم تكن الأغنية مجرد لعبٍ طفولي، بل كانت أنينًا مكتومًا من قلب الذاكرة، نداءً للحرية خرج من أفواهٍ صغيرةٍ لم تدرك بعد معنى القيد، لكنها شعرت به غريزيًا، كما يشعر الطير بحضور الصياد قبل أن يراه.
ففي عمق الأغنية، يتجاور البراءة والمرارة. فالأطفال الذين تغنّوا بها لم يكونوا يعلمون أنّهم يرددون صلاةً خفيّة في ليلٍ طويلٍ من القهر. كانوا يطلبون من الحوتة أن تُخرج قمرهم العالي، غير مدركين أنّ الحوتة لا تردّ النور إلا لتلتهمه ثانية. هكذا تستمر الحكاية: القمر يُطلّ للحظة، يضيء القلوب، ثم يُبتلع من جديد، لتغرق الأرض في صمتٍ يابسٍ كرماد الفجر المؤجل.
تلك الأغنية — التي بدت عابثة في ظاهرها — هي في جوهرها مرآةٌ لزمنٍ غارقٍ في الظلمة. فيها تختصر الشعوب حكايتها مع حكّامها، مع أنظمتها، مع خيباتها المتكرّرة. ففي كل عصرٍ تبدّل الحوتة جلدها، وتتزيّن بشعاراتٍ جديدة، لكنها تظلّ الحوتة ذاتها: تلتهم كلّ ما يلمع، ثم تعدُ الناس بنورٍ قادمٍ لا يأتي.
لقد صار الليل هو القاعدة، والنور استثناءً مؤقتًا، وصار الحلم جريمةً تُحاسب عليها العيون قبل الألسنة. كلّما حاول القمر أن يصعد، امتدّت إليه الحوتة ببطشها، وكم من أقمارٍ أُطفئت قبل أن تكتمل، وكم من شعوبٍ ما زالت تغني في العتمة لعلّ الحوتة تشفق أو تملّ.
يا له من وجعٍ أن يتحوّل الغناء إلى استعطافٍ للطغيان، وأن يتورّط الضوء في استئذان الظلام كي يضيء. وما أكثر الحوتات في حياتنا اليوم: في السياسة، في الإعلام، في الثقافة، في المؤسسات، في كلّ مكانٍ يحاول فيه إنسانٌ أن يرفع رأسه نحو السماء.
تغنّي الأجيال ذات الكلمات، بذات الرجاء، ولا يخرج القمر. تتبدّل الوجوه وتبقى الحكاية واحدة: ليلٌ يلد ليلًا، وحوتةٌ لا تشبع من ابتلاع النهار. وكأنّ القدر كتب علينا أن نعيش على فتات الضوء، وأن نظلّ ننتظر القمر العالي الذي يأبى أن يستقر في سمائنا.
ومع ذلك، يظلّ في القلب شيءٌ من إصرار القمر على العودة، من عناده النورانيّ الذي لا يموت. فالقمر وإن ابتُلِع ألف مرّة، يعود، ولو من ثقبٍ في الغيم، ليقول للناس: ما زال في العتمة متّسعٌ لوميضٍ صغير.
ولمن ما فَتِئَ يحلم بقمرٍ لا تبتلعه حوتة،
لمن لا يزال يرفع رأسه كلّ مساءٍ نحو السماء، رغم الغيم والخذلان،
لمن يؤمن أنّ النور لا يموت، بل يتوارى حينًا ليتجلّى أنقى،
لهؤلاء البؤساء الحالمين بقمر لا يبتلعه حوت نقول:
اصبروا على الحلم كما يصبر القمر على المدّ،
آمنوا أن كلّ ليلٍ طويلٍ يحمل في آخره بزوغًا،
وأن الحوتة، مهما عظُم جوفها، لا تستطيع أن تبتلع السماء كلّها.
ربما لم تكن تلك الأغنية الحزينة إلا نبوءة شعبٍ لم يفقد صوته تمامًا، فحتى في خضوعه كان يغني، وحتى في ظلامه كان يرفع رأسه إلى السماء. وربما يأتي يومٌ يُسمَع فيه الشطر الأخير لا كاستجداءٍ للحوتة، بل كهتافٍ جماعيٍ يحرّر القمر أخيرًا من جوفها.
وحينها فقط… لن يقول الأطفال: يا حوتة يا منحوتة طلّعي قمرنا العالي.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

722 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع