الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
الأغاني الدينية والدنيوية بين المُلا عثمان وسيد درويش- الجزء الأول
يزخر تاريخ الموسيقى العربية بأسماء لامعة أمثال إبراهيم الموصلِيّ (742- 804م) وابنه إسحاق الموصلِيّ (767- 850م) ثم زرياب الموصلِيّ (789-857م)، ولعدم توفر أجهزة تسجيل صوت، لم يصلنا عن أعمال أولئك العظماء سوى الشيء القليل.
ثم جاء القرن التاسع عشر الميلادي، عصر بداية التطور التقني في شتى الميادين، وجلب معه إسميين لامعين في سماء الموسيقى العربية، هما المُلا عثمان الموصلِيّ (1854-1923م) وتلميذه النجيب الشيخ سيد درويش (1892-1923).
وكما هو واضح من تاريخ الميلاد والوفاة للمُلا عثمان ولسيد درويش، فإنهما قد توفيا في السنة نفسها: 1923، في حين أن ولادة المُلا عثمان سبقت ولادة سيد درويش 38 سنة.
وبالرغم من مرور 102 سنة على وفاة العملاقين المُلا عثمان الموصلِيّ وتلميذه النجيب الشيخ سيد درويش، فلا يزال الجدل الواسع قائما على بعض أعماهما الفنية الشهيرة بين الباحثين الموسيقيين في المشرق العربي من جهة والإخوة المصريين من جهة أخرى.
علما أن هذا الموضوع قديم وقد أثير في المؤتمر الدولي للموسيقى العربية والذي انعقد في قاعة الشعب في بغداد عام 1964، وقد أثير موضوع اقتباس ألحان الموسيقار الضرير المُلا عثمان الموصلِيّ من قبل تلميذه سيد درويش. ومن الشخصيات التي شاركت في ذلك المؤتمر الأستاذ روحي الخماش (1923-1998) والأستاذ جميل بشير (1920-1977) والدكتور محمد صديق الجليلي (1903-1980).
والمرحوم الدكتور محمد صديق الجليلي من الشخصيات المعروفة جيدا في الأوساط الثقافية وكان يمتلك مكتبة عامرة تضم نوادر الأسطوانات الموسيقية. لقد قدَّم الدكتور الجليلي لمؤتمر الموسيقي العربي الثاني وثائق سمعية وبصرية تؤكد بما لا يقبل الشك عائدية عدد من أشهر الأغاني الشائعة في العراق والشام ومصر إلى المُلا عثمان الموصلِيّ. ومن بين هذه الأغاني بعض الأغاني المنسوبة إلى تلميذه الشيخ سيد درويش، مثل (طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة) و (زوروني بالسنة مرة) وغيرها.
وبعد أن أيقن المؤتمر بالأدلة القاطعة عائدية هذه الألحان للمُلا عثمان، أوصى بأحقية المُلا عثمان بها، وقد احتج الوفد المصري على هذا القرار وخرج محتجا من القاعة.
وتجدر الإشارة إلى أنه في العام 1909 تعرَّف سيد درويش بالمُلا عثمان الموصلِيّ في الشام وتتلمذ على يده، وكان عمر سيد درويش سبعة عشر عاما، حيث كان ضمن فرقة عطا الله الغنائية المصرية، وقد مكث سيد درويش في الشام عشرة أشهر. ثم زار سيد درويش لبنان مع فرقة (سليم عطا الله) وتعرَّف هناك بالشيخ إبراهيم مصطفى الموصلِيّ (1816-1894م) الذي شغل منصب كاتب العساكر النظامية في جيش الدولة العثمانية، وبقي مدة طويلة في وظيفته.
وفي العام 1912 قامت فرقة عطا الله برحلتها الثانية إلى الشام، ومكث سيد درويش مع أستاذه المُلا عثمان الموصلِيّ قرابة السنتين، وقد أتيحت الفرصة لسيد درويش لتعلم الموسيقى وأصولها بشكلٍ أكبر على يد أستاذه المُلا عثمان وأخذ منه أصول الموشحات التركية والشامية والعربية. وقد ذكر الكاتب المصري محمد علي حماد أن تلك الرحلة كانت حجر الأساس في بناء شخصية سيد درويش الفنية وقد استفاد كثيرا من أستاذه المُلا عثمان.
لقد كتبت الدكتورة الأردنية ليندا حجازي، والتي وصلت بصوتها إلى العالمية، مقالا في تشرين1/أكتوبر 01, 2024 في مجلة (الموسيقى العربية) عنوانه: (أغاني المُلا عثمان الموصلِيّ الدينية إحدى روافد الموسيقى العربية).
تقول الدكتورة حجازي: " اهتم أهل العراق في بغداد، ونينوى (الموصل) تحديداً، بإقامة الحفلات الدينية التي تسمى (المولد النبوي أو المنقبة النبوية) تقام في الأغلب في الأماكن المقدسة أو المنازل أو المقاهي، حيث تُتلى فيها آيات من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة وقصائد وأناشيد مُلحنة (التوشيح والتنزيلات).
ويلاحظ المتتبع لهذه الأجواء وطقوسها، وبخاصة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ظهور نخبة ممن اهتموا ومارسوا تلك الطقوس، والمُلا عثمان الموصلِيّ أبرز هؤلاء، فقد قادته الظروف التي أحاطت به منذ الطفولة للانخراط في تلك الاجواء الدينية. بعد ان تجمعت لديه خبرة الاسفار والمهارات المتنوعة والتي جعلت من دوره تعدديا داخل مراسم أداء المولد النبوي الشريف، بسبب اجادته لقراءة القرآن الكريم وخبرته في تفاصيل المقام، وادائه وقابليته الموسيقية وجمال صوته وذكائه المفرط. كل هذه الخصال اجتمعت في ادائه للمولد النبوي لتعكس ظاهرة تجديدية تخترق الاجواء القديمة التقليدية التي كانت سائدة في محيط اداء المولد النبوي".
تضيف الدكتورة حجازي: من أبرز الشخصيات الموسيقية التي تتلمذت على يد المُلا عثمان الموصلِيّ، سيد درويش من مصر والذي بدوره حوّل تلك الاعمال من أغاني دينية في نصوصها إلى أغاني دنيوية مع الاحتفاظ بالألحان الاصلية للمُلا عثمان الموصلِيّ جملة وتفصيلًا، التي تميزت بفطرة الموسيقى عربيّة التلقائيّة.
فضلاً عن دور تلامذة المُلا عثمان أمثال (عمر البطش، أبا خليل القباني) والعديد من أعلام الموسيقى العربية من مصر وحلب والعراق الذين اسهموا في انتشار الحان المُلا عثمان في كافة أقطار البلاد العربية.
كما لاقت الحان المُلا عثمان استحسان الباب العالي في الإستانة (تركيا) حيث استطاع بذكائه وموهبة الفطرية، أن يترك اثراً جلياً في الموسيقى التركية التي استقبلت واحتضنت اعماله الدينية منها والدنيوية، فكان محل تقدير واحترام موسيقيي عصره في عاصمة الدولة العثمانية (الآستانة) والبلاد العربية.
وقد لخّصت الدكتورة حجازي خصائص أغاني المُلا عثمان الموصلِيّ بعد تحليل أربع مقطوعات من أعماله بالخصائص الآتية:
- تنوع مواضيع الأغاني بين دينية ودنيوية.
- سهولة اللحن وترجمته لمعاني النص الشعري الديني.
- عذوبة اللحن الدنيوي وتناسبه مع النصوص الشعرية الدنيوية.
- تنوع الإيقاعات بين بسيط ومركب، ومتوسط السرعة وبطيء.
- التنوع المقامي.
وتحدثت الدكتورة حجازي عن أغاني المُلا عثمان الموصلِيّ، وذكرت أن الأغاني الدينية التي تحولت نصوصها الى أغاني دنيوية هي:
- "فوق النخل فوق" أصلها "فوق العرش فوق".
- "ربيتك زغيرون حسن" أصلها "يا صفوة الرحمن سكن".
- "اسمر أبو شامة" أصلها "أحمد أتانا بحسنه سبانا".
- "يا ناس دلوني" أصلها "صلوا على خيرِ مضر".
أما الأغاني الدنيوية التي قام بتلحينها المُلا عثمان الموصلِيّ فهي:
- طالعة من بيت أبوها.
- يا أم العيون السود.
- يا عذولي لا تلومني.
- يا خشوف العلى المجرية.
- يا ابن الحمولة.
- يا من لعبت به شمول.
- البنت الشلبية.
- قدك المياس.
- عالروزنة.
-"آه يا زين العاشقين" أصلها " النوم مُحرَّم لأجفاني".
https://www.youtube.com/watch?v=0UQv-kDWSqE
https://www.youtube.com/watch?v=bUrBwADscyo&t=29s
المصادر:
- د. باسل يونس ذنون الخياط: "المُلا عثمان الموصلِيّ شيخ الموسيقى العربية: سيرته وأشهر إبداعاته الفنية"، صفحات للدراسة والنشر، الشارقة، 2023.
- د. ليندا حجازي: "أغاني الملا عثمان الموصلي الدينية احدى روافد الموسيقى العربية"، مجلة الموسيقى العربية تشرين1/أكتوبر 01, 2024.
- خالد إبراهيم "رحلة في ألحان سيد درويش"، اليوم السابع، 01 مايو 2025.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
838 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع