د. علي محمد فخرو
بصراحة تامة هناك قلق مبرَّر يتزايد عند الكثيرين من أن الاعلام العربي، المقروء والمشاهد والمسموع، قد أصبح مصدراً رئيسَّاً من مصادر خلق واشاعة ثقافة اللاَّتسامح في مجتمعات بلاد العرب.
ولعل التسابق في الحصول على اكبر حصّة من الاعلانات التجارية، والتًّزاحم على اجتذاب انتباه وولاء أكبر عدد ممكن من القراء والمستمعين والمشاهدين، من اجل التباهي من جهة ومن أجل ممارسة غطرسة القوة المعنوية المجتمعية من جهة ثانية، قد قادا بعض المؤسسات الاعلامية الى غض الطرف عن ظاهرة ممارسة الفهلوة الكلامية والنكتة الجارحة السمجة والمبالغات المثيرة لغرائز الحقد والكراهية والعمى الادراكي والتطرُّف والتعصُّب في الفكر واللغة.
ان المحصلة النهائية للتعامل بتلك الصورة مع الاعلام السياسي العربي على الأخص، ستقود الى اضافة ثقافة اللاتسامح الى ثقافة التخلف لينتهي الأمر بنا الى خطابات سياسية لا ديموقراطية ومضادة لحريات الآخرين.
واذا كان لابد من ذكر أمثلة لتلك الممارسات الخاطئة فان الانسان يشاهدها يومياً على شاشات الفضائيات العربية.
أفجع الأمثلة هي تلك الحوارات السياسية حول قضايا الساعة والتي تتصف أجواؤها بغياب الموضوعية والتوازن المنهجي والانصاف في مناقشات الأخذ والعطاء.
تلك الملاحظات تبدو مثلاً أكثر ماتبدو في أيامنا الحالية في الكثير من حلقات النقاش التلفزيونية عند تناول أخطاء وشخصيات الاسلام السياسي الذي يمر في محنة التراجع في السلطة وفي القبول الجماهيري.
في كثير منها تمارس أساليب الاستعداء والاستخفاف والاقصاء والتعميم غير المنضبط.
الأمر نفسه ينطبق على مبارزات الفضائيات الدينية المذهبية الكلامية والتشهيرية ضدًّ بعضها بعضا، حيث تسود المماحكات وتشوه صورة الآخر لتصل أحياناً للتكفيروالاخراج من الملة ورحمة الرحمان.
ويصل الاسفاف الى قمته عند المرجفين اللاعنين الذين يملؤون بعض شاشات الفضائيات العربية الرسمية عندما يمارسون وظيفة النًّيل من شرف ونوايا وتاريخ كل معارض مطالب بالاصلاح.
نحن لا نعترض على شدًّة الاختلافات في الرأي ولا على الفضح المدوي للمارسات الخاطئة بحقًّ المواطنين والوطن والأمُّة. انما نعترض على أن يتمً ذلك بمستوى مهني أو مناقبي غير مقبول وبروح التشفي واللاتسامح.
ان القضية تكمن في حقيقة من حقائق العصر الذي نعيشه، وهي صعود المؤسسة الاعلامية الى مكانة لا تقل عن مكانة البيت أو المدرسة، وذلك بالنسبة لغرس القيم والسلوكيات الانسانية الفاضلة في نفوس وعقول الأجيال الشابًّة على الأخص. لذلك فان ممارساتها الخاطئة ستنعكس سلباً على مستقبل الثقافة العربية.
في قلب القيم والسلوكيات الفاضلة موضوع التسامح. انه مدخل لقلب المساجلات والمبارزات الايديولوجية المتشنجة الى مناظرات وحوارات فكرية متفاهمة ويحترم بعضها بعضا.
دعنا هنا نذكر أنفسنا بأن ثقافة التسامح تشير الى التعامل والتعايش مع آراء وعقائد ومواقف الآخرين بالصًّبر والمجادلة الحسنة، بتجنُّب الانقسام والتعصُّب الاعتباطي، بالبحث عن المشترك، بالرفَّض التام للعنف الكلامي، بالاحتكام للمعايير الأخلاقية ومبادئ حقوق الانسان الأساسية خصوصاً ما يتعلق بالحرية والكرامة الانسانية.
دعنا نذكر أنفسنا بأن روح ونهج التسامح، ممثلاً في حوالي مئة آية قرآنية عن حرية الاعتقاد الديني، قد نادى بها الاسلام، ثم تمثلت في أقوال شهيرة من مثل قول الامام الشافعي (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب) أو قول الامام أبوحنيفة (كلامنا هذا رأي، فمن كان عنده خير منه فليأت به).
أما حقل الفلسفة فقد قام وانتعش من خلال فضيلة الحوار المتسامح. وكان الفيلسوف الفرنسي فولتير يردًّد: كلنا ضعاف ميَّالون للخطأ فليسامح بعضنا بعضا بشكل متبادل وللقائد الروحي الهندي غاندي دعابة مؤداها: «لا أحب التسامح ولكني لا أجد أفضل منه للتعبير عما أسعى اليه».
ثمًّ انً ممارسة فضيلة التسامح الفكري واللًّفظي تحتاج الى شخصية متوازنة ومؤمنة بالمسؤولية الاجتماعية. وهذا لا يتوافر في الكثير من الشخصيات الهامشية في الحياة السياسية والثقافية التي تدعى الى حلقات النقاش التلفزيونية. بعض تلك الشخصيات تمارس مع الأسف أسوأ أنواع أدب الحوار والمناظرات.
أخيراً هل يمكن لأي نظام ديموقراطي أن يوجد ان لم تقم العلاقة فيما بين اطرافه الفاعلة على أسس الأخذ والعطاء في المصالح والتسامح في الخطاب؟ فاذا كانت مجتمعات ثورات الربيع العربي تريد الانتقال الى النظم الديموقراطية، فهل تبدأ ذلك الانتقال بتجاهل أحد أهم وسائل ممارسة الديموقراطية: التسامح في الخطاب؟
أملنا كبير في ان لا يسكر بعض القائمين على الاعلام العربي بنشوة انتصار هذه الفئة أو تلك، فالسياسة، كما هي الأرض، تداول بين الناس.
946 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع