د. علي محمد فخرو
بعيداً عن التفاصيل المؤقتة، الحقيقي منها والمتخيًّل، التي رافقت انتقال سلطة الحكم في مصر من يد الى يد أخرى يوم الرابع من هذا الشهر، فان القضية الأساسية التي ستحتاج الى كثير من التحليل والمراجعة هي قضية نمط الاستيلاء على السلطة في أرض العرب.
انها قضية سياسية، لها جذور تاريخية حاكمة ومنظرون من المفكرين والفقهاء وأشكال متعددة من الممارسة. وهي ككثير من القضايا السياسية في حياة العرب لم تحسم بعد. وكيف تحسم اذا كان الارث التاريخي العربي الاسلامي لا يسعفها، والفقه الاسلامي مختلف حول التعامل معها، والحداثة العربية مازالت تواجه مخاضاً عسيراً.
من هنا فان الحديث عَّما جرى في مصر يجب ألا ينزلق الى التبسيط المخل أو التًّيهان في المؤقَّت، خصوصاً أن انعكاسه على مسقبل الواقع العربي، فكراً وممارسة ونتائج، سيكون كبيراً. فما هي الملامح الكبرى لأحداث مصر الأخيرة؟
أولاً ما قلناه عند تفجُر ثورات وحراكات الربيع العربي من كسر الانسان العربي لحاجز الخوف التاريخي من سلطان وبطش السلطة الحاكمة عادت أحداث مصر الأخيرة فأكًّدته، بل وضاعفت تأكيده. لقد أثبت الانسان العربي بأنه لن يقبل بعد اليوم حياة الاستكانة والتهميش والاستغفال والاستخفاف به من أي جهة كانت، داخلية وخارجية. ومن هذا المنطلق قرَّر أن يكون في ثورة دائمة، ليس لها نهاية في الأفق المنظور، وذلك حتى تتحقق جميع أحلامه وآماله ومطالبه المشروعة.
من هنا فان الذين يخافون أن تقطف أو تستولي هذه الجهة أو تلك على ثمار ثورته وأن تستفيد من جهد عرقه ودموعه لمصالحها الانتهازية يخطئون الظن والحساب فالتغيُّر في الانسان العربي عميق.
ثانياَ لا شك أن ظاهرة الثورة في الثورة التي مارستها جموع شعب مصر الغفيرة قد أضافت الى الأنماط الخمسة الشهيرة للاستيلاء على السلطة، وهي الوراثة والانتخاب والتعيين والانقلاب العسكري والشخصية الكاريزمية القائدة، أضافت نمطاً سادساً يتمثًّل في تعبير تمٌّردي شعبي رافض من قبل غالبية كبيرة من المواطنين، متراصًّة ولكن غير متماثلة سياسياً. في الأنماط الخمسة السابقة يتمٌّ الاستيلاء عادة من قبل جماعة سياسية أو عسكرية نافذة سواء من داخل مؤسسة الحكم أو من خارجها. وهي تسعى لانتزاع السلطة من يد جماعة نافذة سياسية أو عسكرية أخرى تماثلها في داخل الحكم. لكن أحداث مصر كسرت تلك القاعدة.
من المؤكد أن هذا النمًّط الجديد مبهر وواعد، ولكنه لا يخلو من المشاكل وامكانية السقوط في أيادي اللاًّديموقراطيين وقوى الثورات المضادًّة. ولذا فمن الضروري التفكير، من قبل المفكرين والعاملين في حقل السياسة، في أفضل السُّبل للاستيلاء على السلطة وذلك من خلال التناغم والتعاضد بين هذا النمط الجديد والنًّمط الانتخابي الديموقراطي القديم وذلك من أجل أن يقدًّم العرب للعالم نوعاً جديداً من الممارسة الديموقراطية التي تقلُّ فيها الثغرات الكثيرة الموجودة في الديموقراطية الكلاسيكية الغربية. ولا نحتاج للتذكير بأن النظام الديموقراطي الكلاسيكي أثبت أنه في حاجة للتعديل والتحسين المستمرَّين.
ثالثا- سنمارس التفكير الطفولي الكارثي لو اعتقدنا بأن الانتكاسة السياسية التي أصابت الاسلام السياسي في مصر ستعني انتهاء تواجد الاسلام السياسي في أرض العرب فالاسلام السياسي ليس ظاهرة سياسية سطحية مؤقًّتة، وانما هو ظاهرة عميقة الجذور مرتبطة أشدًّ الارتباط بثقافة المجتمع العربي، وهي ثقافة في قلبها وعقلها وروحها قيم وعقيدة وتاريخ الاسلام.
الاسلام السياسي سيبقى معنا كجزء هام وفاعل وجاذب في المشهد السياسي العربي. لكن من المؤكد أن حاملي لوائه سيحتاجون لاجراء مراجعة عميقة للكثير من جوانب ممارسات تياراته المختلفة، سواء في نوع الخطاب السياسي أو في الأهداف السياسية والاجتماعية أو في العلاقة مع الآخرين أو في التعامل مع حريًّات الأفراد ومع دور المرأة المجتمعي.
وفوق كل ذلك سيحتاجون لحسم موقفهم من موضوعين بالغي الأهمية والتعقيد : موضوع الانقسام الطائفي المذهبي الذي بات يهدد وجود الاسلام نفسه في الواقع وفي القلوب، وموضوع الاسلام العنفي العبثي المزور لمفاهيم الجهاد في ساحة الصراعات السياسيًّة الدنيويًّة البحتة.
اضافة للمراجعات التي يجب أن تقوم بها جماعات الاسلام السياسي، وخاصة جماعة الاخوان المسلمين، فان المطلوب من القوى السياسية الأخرى، وخاصة القومية العربية منها، أن تستمر في الحوار والتواصل مع القوى الاسلامية السياسية، الذي بدأته منذ ثلاثة عقود، والذي يجب أن يؤدي الى تعايش خلاَّق واغناء للممارسة الديموقراطية في وطن العرب.
النظر الى ما جرى في مصر يحتاج الى أن يعلو فوق مشاعر التشفي المريضة ويذهب الى الثوابت في صيرورة ثورات الربيع العربي الممتدة في الأفق العربي البعيد.
مطلوب تجنُب الانشغال بالهوامش والمؤقت، كأرباح وخسائر أميركا والكيان الصهيوني وهذه الدولة الاسلامية والعربية أو تلك أو انشغاق هذه المجموعة أو تلك الخ.. الانشغال بذلك سيضيع علينا فرصة تاريخية للاستفادة من ألق وعبقرية أحداث كبرى تجري في كل الأرض العربية.
1186 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع