محمود سعيد
نستعمل في الّلغة العربيّة نوعين من الكلمات، كلمات موجودة في المعاجم العربيّة،
وفي كتب التّراث، وفي النّشرات المعتمدة من الجهات الرّسمية ووثائقها، وأخرى غير موجودة في المعاجم، وفي كتب التّراث، تجري على السّنتا عفويّاً لكنّنا لا نستعملها إلّا في الكلام العاميّ، بالرّغم من أنّها تؤدّي المعنى كغيرها من الكلمات الفصحى، وربّما في بعض المواقع أفضل من الفصحى، لأنّ لها تأثيراً قويّاً في انطباعاتنا، ومقاصدنا الحياتيّة، وسأتطرق إلى بعضها لا كلّها فهي كثر لا حدّ لها.
1 ــ يجري على السّنتنا في الفصحى في جميع الدّول العربيّة، أفعال تدلّ على النّظر وهي رأى ، نظر إلى، ونظر، وفي بعض البقع يستعمل النّاس كلمات أخرى، ففي الموصل وموريطانيا على سبيل المثال يستعمل في الدّارجة كلمة غشع وقشع: غشعتُ التّمثال القبيح لمارلين مونرو في شيكاغو، أي رأيته. وحينما أدركت بلدية شيكاغو قبحه رفعته بعد بضعة أشهر، وقشعتُ أوباما لا يفرق عن بوش. أي رأيتهما متماثلين، وربما هناك كلمات أخرى يتداولها العرب في أمكنة أخرى لم أصلها لذا لا أستطيع ذكرها. لكن هناك كلمة تستعملها العرب من المحيط إلى الخليج، وفي كلّ لهجاتها العاميّة، كلمة أجمل من نظر ورأى ونظر إلى وقشع وغشع الخ، كلمة رقيقة لطيفة سلسة هشّة بشّة هي كلمة شاف، ومشتقاتها. استعملها وائل كفوري في أغنية شافوها:
http://www.youtube.com/watch v=8NI2NVkB0pE
يحذف المغاربة الفاء إن ارتبطت بضمير المخاطب فقط، فلا يقولون شفتَ أو شفتِ بل يقولون شتِّ. فيقول المغربي لأخيه شتِّ الملك محمد السّادس كيداري مع الفقرا؟ أي أرأيت الملك كيف يتعامل مع الفقراء؟
كلمة شاف واضحة الدّلالة شاملة وأستطيع أن أقول شفتُ جوليانا جولي في فلم الاسكندر فلم يعجبني دورها، بينما شفت دورها في فيلميْ التّحدي وانتزاع الحياة، فأعجبتني، علماً بأنّي أحبّ هذه الممثلة، وأشوفها إنسانة عظيمة، وأتمنّى لو استطعتُ خدمتها، لا لأنّها جميلة الجميلات، وحسناء الحسناوات، بل لأنّ قلبها مليء بالحنان والعطف والسّموّ فقد سافرت إلى العراق وسوريا غير مرّة لتفقّد شؤون المهجّرين العراقيين وللعناية بهم، ومساعدتهم، وهم يتجاوزون أربعة ملايين. هؤلاء البائسين شرّدهم السّيد بوش وأزلامه بقسوة قلب لا مثيل لها، وتبرّعت لهم، وأوصلت أمرهم إلى الأمم المتّحدة، بالرّغم من سكوت الحكومة العراقية "الفاضلة" مع الأسف الشّديد. ولهذا أعاهدكم إن رشّحت جوليانا لرئاسة الولايات المتحدة فستشوفوني أوّل من ينتخبها. أما الحسناء المرحومة مارلين مونرو فقد شافت الكاتب ارثر ميلر على قبحه وسيماً ففضلته على روبرت كندي وتزوجته، ثم شافت منه أشياء لا تعجبها فطلّقته، وشاف رئيس البنك الدّولي "دمونيك ستروس كان" خادمة فندق في نيويورك سمراء جميلة فواحة العطر فاغتصبها واعتُقل وحطّم سمعته ومستقبله مقابل أحد عشر دقيقة متعة على ذمة ماركيز، وحينما شاف القضاة التّهمة غير مستوفية الشّروط أخلوا سبيله بكفالة، ولا أدري ألعبت الوساطة أو الذّهب الرنّان دوراً في الموضوع أم لا؟
أنا شخصيّا استعملت في بعض كتاباتي كلمة شاف في رواية (بنات يعقوب)، بالرّغم من تحسّسي الشّديد في الكتابة، ولم استعملها اعتباطاً، وتحدّياً لكنّي رأيت المعاجم القديمة تجيز شاف لا بمعنى نظر بل أشرف ونظر، وتشوّف أي تطلّع من علٍ كما تشوّف النّبي داؤد عليه السّلام ، تشوّف
على بيت قائده أوريا الحثيّ فشاف امرأته الحسناء بتشبع بنت أليعام عارية، ربي كما خلقتني، فسخنت دماؤه، وجنّ بها، فاستدعى أوريا الحثيّ، وأرسله ليقاتل في معركة يائسة لم يخرج أحد منها حيّاً، ثم جلب زوجته بتشبع وأشبع رغبته منها، والعياذ بالله . لكنّ يهوا عفا عنه، ولو كان داؤود مواطناً الآن في نيويورك لأهين وألقي في غيابة الجبّ، وللقي عنتاً وووووو.
لم تقف العامة عند شاف بل اشتقت منه كلمة "الشّوّاف"، وهو المستبصر الّذي يرى ما لا يراه الآخرون "قارئ الفنجان" "فتاح الفال" وفي العراق عائلة مشهورة، في مدينة البصرة" هي عائلة الشّوّاف، ورأيت رقعتين في عمان والقاهرة عليهما كلمة الشّوّاف ولست أدري أهم من العراق أو لا. ثم استعمل النّاس مشتقات الفعل الأخرى شايف، وشايفة، وشوّف، وشايفين وشايفات الخ.
القضية بين أيديكم يا حضور النّدوة هل تجيزون استعمال هذه الكلمة الجميلة فتردون لها اعتبارها بعد طول طرد واحتقار؟
2 ــ كلمة شويّة تُستعمل في العاميّة في معظم الأقطار العربيّة وتعني القليل أو القلّة. نقول: اعطني شويّة باقلاء، وشويّة حلاوة، أو شويّة حمّص بطحينة ، وشويّة طعميّة، وشويّة كشري، وشويّة فلوس، وفي أحد الأفلام المصريّة اتهمت زوجة مصريّة زوجها أمام المحاكم لتبرّر طلبها الطّلاق منه أنّه لم يعطها شويّة حنان. فاحتار القاضي وصرخ بها بقوّة، والقاضي في التّعاليم الإسلاميّة لا يحقّ له أن يصرخ قطّ، ويعزل عن القضاء إن ثبتت عليه تهمة الصّياح ، لكنّ القاضي في الفلم المصريّ صرخ بقوّة: يديك إيه يا ولية؟ أمّا أنا فشفت الحقّ مع القاضي في سؤاله لا في صراخه، لأن كلمة الحنان بين الزّوج والزّوجة شريط طويل يبدأ بالغزل والهمس واللمس والضّم والعناق والقبل ثم ينتهي بأشياء أخرى. فماذا تعني بشويّة حنان هذه الوليّة؟
في العراق يتردّد دائماً وصف الظّالم بــــ: ما عنده شويّة رحم ولا شويّة شفقة. وتغني أم كلثوم بلحن رشيق جميل خفيف راقص غنّيلي شويّ شويّ، غنّيلي وخد عيني
http://www.youtube.com/watch v=zZI2 ــ jbxbVs
لكنّ أم كلثوم هنا لم تقل الحقيقة مع الأسف، فلا يوجد أحد يغني لأم كلثوم ويريد أن يأخذ عينيها، لسبب بسيط هو أنّ عينيها غير جميلتين، وضعيفتي النّظر، وحتى إن أخذ عينيها فماذا يفعل بهما؟
الخلاصة إنني أرى أنّ كلمة شوي أو شويّة كاختها شاف، بسيطة، لطيفة رشيقة رائعة، وأروم أخذ اذنكم باستعمالها في كتاباتي فهل تمنحوني هذا الحق؟
3 ــ يقفز على السّنتنا في الفصحى عندما نريد أن ننفي بعض الأمور في الماضي كلمة قطّ، مثل رأى العراقيون من سرق المليارات بعد الاحتلال لكنّهم لم يروا أي جائع تجرّأ وسرق قرص خبز قطّ. وعندما احتجّت هيأة النّزاهة واتهمت أحد الوزراء بسرقة 36 بليون دولار، دافع عنه قريب ملياردير إحتلال وحرب أيضاً متواجد في الإمارات: لماذا يبالغون؟ لم يأخذ غير اثنين وثلاثين ملياراً بس، قال بس ولم يقل قطّ.
وحسب موقع إليكترونيّ فلسطينيّ أنّ محمود عباس قال لرفاقه قبل أن يذهب إلى الجمعيّة العامة صبرنا خمساً وستين سنة وبس. أي لا طاقة لنا للصّبر بعد الأن. فخمس وستون سنة كافية لتوقف مباحثات عقيمة .
العامة في العراق كباقي إخوتهم العرب في كلّ مكان لا يستعملون قطّ وفقط أبداً، ربما لأن الطّاء ثقيلة، وصوتها قويّ كصوت طلقات المدفع والتّفجيرات والقنابل، وقد شبع العراقيون من الطّق والطّاق والرّصاص لذا فهم يستهسلون استعمال كلمة بس، لأنها سهلة سلسلة رقيقة أنيقة جميلة كراقصة باليه في الثّامنة عشرة. فهل نستطيع استعمالها؟
4 ــ في العربيّة كلمات عدة تعني النّظير المِثْل، المماثل، الشّقيق، التّوأم، الصّنوّ والسّي، وسواء. كلّها كلمات تؤدّي المعنى، ولست أدري لماذا فضّلت اللغات الأخرى كالبنغاليّة والأذريّة أي لغة أذربيجان، والتّاميليّة، والأرديّة كلمة نظير العربيّة فاستعارتها وأصبحت باستعمالهم لفظة عالميّة، فيقولون جميعاً بنازير، أي بلا نظير، لأنهم لا يستطيعون نطق الظّاء.
كلّ هذه الكلمات تُستعمل في الفصحى حسب تفضيل الكاتب إلّا كلمة السّي فهي ثقيلة لا يستعملها أحد إلّا المصريين بعد أن تغلّبوا عليها وطوّعوها ونحتوا منها كلمة جميلة جداً هي كلمة زَي فاصبحت حلوة رشيقة وبخاصة عندما يغنيها عبد الحليم حافظ: زي الهوا ياحبيبي، زي الهوا
http://www.youtube.com/watch v=_ ــ YVLlEZHOk
5 ــ تستعمل العامة كلمة سوا لا لمعناها الفصيح التّساوي بل لتعني كلمة معاَ، وفي رأيي إن كلمة سوا أبسط وأقلّ تعقيداً وأسهل استعمالا من كلمة معاً، فيقولون ظهر فريد الأطرش وسامية جمال سوا، وأكلا سوا، ورقصا سوا، وقضيا وقتاً ممتعاً سوا بدلاً من معاً الثّقيلة، ولكي تتأكّدوا مما قلت دعونا نسمع كلمات بيرم التّونسي يغنيها فريد الأطرش لسامية جمال: سوا سوا والله سوا، أحنا الأحبّة كلنا نعيش على نور الهوى، والدّنيا سايرة بالهوى على مرام أهل الهوى. بيرم التّونس يعني بسوا هنا معاً
http://www.youtube.com/watch v=yKC9n0tfasE
وحبذا لو استعملنا مع التّونسي وفريد الأطرش كلمة سوا الرّشيقة الجميلة الحلوة في الفصحى بالإضافة إلى معاً، ومنحناها شرعيتها؟
6 ــ الشّاطر في العربيّة هو الفاجر الخبيث المؤذي، ومن تعب أهله من خبثه ولؤمه فعجزوا من إصلاحه، فشطروه منهم، أو هو من شطر نفسه عنهم، وابتعد، والشّطارة هي الانفصال والابتعاد في الفصحى، لكن العامة تستعمل كلمة الشّاطر استعمالاً آخر فهي تطلق على الانتهازيّ والمصلحيّ ومن يعرف من أين تؤكل الكتف. ولعلّ القصة المشهورة الشّاطر حسن دليل تاريخيّ على ذلك. لكنّ هذه الكلمة خارجة عن القانون، وغير معترف بها. وهناك أدب شبه عامي يصف الشّاطر بأنه من يستعمل القوّة في موقع القوّة والحيلة في موقع الحيلة، أي أنّ صفاته هذه أفضل من صفات جباريّ (ديكتاتوريي) العرب، بعض ملوكهم، ورؤسائهم الّذين يسومون شعوربهم سوء العذاب، لكنّهم لا يملكون حقّ الغسل من الجنابة ما لم يأخذوا رأي أسيادهم في واشنطون. أما لماذا الشّاطر أفضل من هؤلاء الأغبياء جميعاً فلأنهم استعملوا القوّة في غير موضعها واستعملوا الحيلة في غير داعٍ وكذبوا على شعوبهم، وصدقوا مع أعدائهم، فانتهى بعضهم إلى مقبرة العدم ومستنقع الفناء، ومازال البعض الآخر ينتظر.
ألالفاظ العربيّة التي تعني معنى الشّاطر كثيرة كالأزعر والحرفوش والشّقيّ ومن هؤلاء تتألف مجموعة الشّطار وهم على هبوطهم الاجتماعيّ فقد ذكرت لهم مواقف نبيلة طيلة التّاريخ العربيّ، كان بعضهم لا يعتدي على الفقير، ولا على المرأة، ولا يسرقهما ولا يسرق الشّيخ والطّفل والعاجز، ووقفوا موقفاً بطوليّاً في المعركة بين العجم والبغداديين حينما جاء المأمون بجيش الأعاجم اللجب من خراسان ليقتل أخاه الأمين، فوقعت معارك كبرى بين الجيشين ولم يستطع المأمون وقائده طاهر بن الحسين الخراسانيّ أن يحتلّ بغداد إلّا بعد أن استمال قادة الأمين إلى جانبه بأكياس من الذّهب الرّنان، وبعد معارك راح ضحيتها عشرات الألوف من الخراسانيّين على يد الشّطار والعيارين والحرافيش. لذا انبرى الصّوفية ليرفعوا من شأن الشّطار فاستعاروا الّلفظة وزيّنوها بمفاهيم باطنيّة لمن يجلّونه منهم فقالوا إن الشّاطر هو المسرع إلى الله، والمسرع إلى الله يكافئه بالحور العين فيا له نصر مبين، فياليتنا نكون مع الشّطار في جنة الأبرار.
لكن مما يؤسف له لا تمتدح نانسي عجرم هذا النّوع من الشّطار بل نوعاً آخر
http://www.youtube.com/watch v=gdfaog ــ LCzs
6 ــ استعمل طه حسين عميد الأدب العربيّ كلمة بؤساء ليصف المضطهدين الفقراء المشرّدين، وكلمة البؤساء سهلة سلسة رفيقة المخرج، ومازلنا نستعملها اقتداءً به لكنّها خطأ مع الأسف الشّديد، والصّحيح بؤُس وبائسون. أنا مع طه حسين، فمادامت الكلمة سهلة ومؤدّية للمعنى فلماذا نستعمل كلمة أثقل؟
7 ــ نقول في الفصحى تبعت الّلص لكنّه اختفى من نظري كليّة. كلمة كليّة مفهومة وواضحة أمّا العامّة فلا تستعملها أبدا، لأنّها أثقل من جبل حمرين، تستعمل كلمة أرقّ وأرشق وأجمل هي بالمرّة، فنقول اختفى الّلص من نظري بالمرّة. ولأنّ كلمة بالمرّة رقيقة وسهلة اختارها الملّا عثمان الموصليّ ولحّنها أغنية أهداها لسيد درويش، ثم تلقفتها المبدعة الرّائعة الفنانة العظيمة فيروز فشنّفت آذاننا بعتابها الجميل الرّائع لحبيبها زورني بالسّنة مرّة حرام تنسوني بالمرّة.
http://www.youtube.com/watch v=f1qKSxXFwbw
لو كانت فيروز تخاطبني بهذه الأغنية لما انقطعت عن زيارتها حتى الموت، لكن ما العمل هذه هي الحياة، هناك ضعاف القلوب مثلي، وهناك قساة فظّون، غلاظ القلوب كثيرون منهم من تعنيه السّيدّة فيروز.
8 ــ وهناك كلمات جميلات رائعات خفيفات يتجاوز عددهن المئات، لكن العين بصيرة ومساحة المحاضرة قصيرة وإلى اللقاء.
1 ــ محاضرة في النّدوة العربيّة في جامعة شيكاغو
765 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع