بس من ذكرياتي في دشتة د نهلا وقرية جمي ربتكي قبل نصف قرن

                                     

قبس من ذكرياتي في دشتة د نهلا وقرية جمي ربتكي قبل نصف قرن

بقلم : د. حبيب تومي / اوسلو عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


                         

في هذه الأيام يطوف على السطح الحديث عن جمربتكي وعن دشتا دنهلا ، وهكذا تسلقت جدار الذكريات لأنظر من كوة صغيرة الى ماض يبتعد عن حاضرنا قرابة نصف قرن الزمن .

من منطقتنا في جبل القوش كان علينا قطع مسافة طويلة في كلي طويل يعرف بـ (كلي رمان ) الذي كان يفتقر الى ينابيع الماء في الطريق ، ولكن في نهاية المطاف نصل الى اول قرية في سهل ( دشتة د نهلة ) أعتقد ان اول قرية نصل اليها من جهة الغرب هي جمي ربتكي وما علق في ذهني من اسماء تلك القرى : جمه سني وبلمند وجولي وخليلاني وكشكاوا وهيزاني ، وميروكي .. وتقع هذه القرى في سهل منبسط يعرف بدشتة دنهلة لكن نلفظه ( دشت د نالا ) ، وكان الى الشمال الشرقي من السهل ثمة قرية في وادِ ( كلي او وهدة ) ذي شعب وممرات وعرة عاصية كانت قرية دفريي التي كانت مقراً لحسو ميرخان قائد منطقة بهدينان . في قرى سهل نهلة لم يستطع الأهالي المكوث فيها لأنها سهل مستوي لا كهوف ولا تشققات في صخور عاصية فالطيران الحربي كان يستهدف تلك القرى بكل سهولة ويسر . ، ولهذا كان معظم ساكنيها قد هجروها .

من ذكرياتي عن ( دشته دنالا) في اواسط 1963 ذهبنا مجموعة من الشباب بحدود 20 شخص من جماعة توما توماس للالتحاق بهرمز ملك جكو بهدف تسليحنا بالبنادق ، وكان دليلنا في الطريق رجل اسمه باكوس . وما بقي عالقاً في ذهني ، اننا وصلنا قرية اسمها جمه ربتكي وهي اول قرية نصل اليها ، وفي هذه القرية نزلنا في بيت المختار ، وكانت القرية جميلة ، حيث ان لكل مسكن مزرعة ( وهي حديقته ) ملحقة به يزرع فيها كل انواع الخضروات التي يحتاجها الفلاح من طماطة وخيار وفاصوليا ... اي ان الفلاح في هذه القرى مكتفي ذاتياً . بالأضافة الى ذلك كان في ضواحي القرية حمام على ضفة النهر ، وأن القرية بشكل عام تمتاز بالنظافة والأناقة فالبيوت هنا تتخللها الشبابيك والتي يظهر من الخارج منظر الستائر الجميلة وهذا كان غير متوفر في القرى الكوردية في ذلك الوقت .

في البيت الذي ضيّفنا اتذكر ان السقف المسنود على اعمدة خشبية كانت تتخلله كنائر حديدية كالتي يستخدمها القصابون في محلاتهم لتعليق قطع اللحم حيث يصار الى ذبح الربيط ، وتقطيع وتجفيف وتمليح لحومها لفصل الشتاء الطويل ، وقد كتبت في كتابي الموسوم ( البارزاني مصطفى قائد من هذا العصر) الذي طبع مؤخراً في اربيل ص703 عن دشتة دنهلة ، وكنت احاول ان يكون وقت حراستي في ساعات الصباح الجميل حيث كان يسحرني المنظر والطبيعة الجميلة فكتبت :

                                   

الى اليمين صباح توماس (ابو ليلى) والى اليسار كاتب هذه السطور حبيب تومي الملقب ( حُبّــا ) والصورة التقطت والأرض مغطاة بالثلوج والصورة تعود الى عام 1965م .

" دشتة د نالا " التي كنت كنت استمتع بجوها الجميل وكانت تباشير الربيع تملاْ الجو والأرض ، فالسماء مجلوة كالمرآة الصافية والهواء نسيمات نقية تنساب بهدوء وتداعب الأغصان المتمايلة ، وتترنم الطيور ألحانها الأزلية مع وقع الحياة في تلك الأصقاع ، كم كانت رائعة تلك الصباحات الجميلة في منطقة نهلة ، حيث النسيم العليل مع زقزقة العصافير المتراقصة على انغام خرير الماء ومعها تنتشر بشكل أخاذ تجمعات الضباب لتختفي متوارية مع الخيوط الأولى لأشراقة الشمس المنسابة من بين قمم الجبال . فتترامى الأرض المنبسطة وكانها واحة خضراء تتكلها مختلف الأوراد والأزهار ومن شتى الأشكال والألوان ، فتنبثق برشاقة وحنان بين بساط الحشيش الأخضر المترامي بين الصخور ، ومن هذه الزهور الزنبق والسوسن والبنفسج وشقائق النعمان ، وفي الأماكن العالية تتربع مجموعات من ازهار النرجس الجميلة وتبدو وكأنها قطعة ثلج ناصعة البياض ، وكان الهدوء يخيم على المنطقة ما خلا خرير الماء المنبثق من اختراق نهر الخازر لهذه المنطقة .

الجدير بالذكر ان منطقة نهلة كانت قبل ان يسكنها المسيحيون الآثورين كانت منطقة موحشة غير ملائمة لسكن البشر حيث تسرح فيها الوحوش من نمور وذئاب ودببة ، وقد اعطيت هذه المنطقة للاثوريين يوم هاجروا من تركيا وأيران في اعقاب الأضطهاد والتنكيل والتهجير التي طالت الأقوام المسيحية من الكلدان والسريان والآثوريون والأرمن في مطاوي واعقاب الحرب العالمية الأولى .

اثناء تنقلاتنا في قرى كوردستان ابان ثورة ايلول وصلنا إحدى القرى الكوردية مساءً ، وإن كانت ذاكرتي لا تخونني فإن القرية كانت بيبوزي ، وكالعادة انا وصباح توماس ابو ليلى كنا سوية إن كان في السراء او الضراء ، إن كنا برقة توما توماس او بالقيام بمهمة ما او في وقت الراحة فكنا سوية لا نفترق ، وفي تلك الليلة كنا في بيت من القرية بتنا ليلتنا فيه كان هنالك رجل عجوز تبرع ان يسرد لنا بعض الحوادث القديمة حينما علم اننا مسيحيون قال وهو يتربع في فراشه المفروش على الأرض :

كانت منطقة دشتة نهلة تسكنها الوحوش وتربتها صعبة على الأستصلاح ، لكن القوم الذي نزل بها كانوا فلاحين مجربين وهم قوم محاربين ايضاً ــ وقد علمت من المقالات المنشورة ومن الأخ خوشابا سولاقا بالذات ان هذه القرى ( دشت نالا) سكنها عشيرة تياري السفلى ــ . ويضيف وهو يتحدث الينا وهذه المرة تمدد في فراشه متكئاً على مرفق يده ونحن جالسون على الأرض قبالته فيضيف :

كما هو معروف فإن قرى قبيلة الزيبار تنتشر بجوار هذه المنطقة ، وبعد فترة من استقرارهم في تلك الربوع اغار عليهم رجال من قبيلة الزيبار وأخذوا منهم (5 ) رؤوس غنم ، وما فعله الأثوريون مقابل ذلك ، انهم بعد ايام اغاروا على الزيباريين وأخذوا منهم ( 10) رؤوس غنم ، فاغتاظ الزيبارون من هم هؤلاء المسيحيين لكي ينهبوا منهم وضعف ما نهبوه؟

وهكذا اعدوا لهم غارة أخرى ناهبين قطيعاً من 15 رأس غنم وكالعادة اغارت عليهم القبيلة الأثورية ونهبت من حلالهم 30 رأس غنم ، وفي هذه المرة اشتدت العداوة ، وهيأت القبيلة الزيبارية نفسها وأخذت قطيع من الغنم وقتلت احد الرعاة ، اما القبيلة الأثورية فقد ردت الصاع صاعين حينما نهبت في قابل الأيام قطيعين غنم وقتلت اثنان من رعاتهم .

حين ذاك ادرك عقلاء القبيلة الزيبارية ان هؤلاء ليسوا من المسيحيين الذين يعطون الخد الأيسر بعد صفع الخد الأيمن ، وكان عليهم تشكيل وفد للمفاوضات والتفاهم ، فهم جيران ويجب احترام قواعد الجيرة ، وفعلاً تمت الأتفاقية بضرورة احترام الجيرة وذلك بإنهاء مظاهر الأعتداء بين الطرفين ، وبدلاً من ذلك يصار الى التبادل التجاري حيث ان منطقة النهلة كانت مشهورة بإنتاجها من الرز الممتاز ، ومنطقة الزيبر مشهورة بإنتاجها من العدس وهو افضل عدس في العراق .

الحديث كله سمعته من الرجل العجوز المسلم الكوردي وهو يفرغ ما علق في ذهنه من ذكريات ، في الحقيقة لم اشعر بأهمية ذلك الحديث في وقتها لأن المرحلة العمرية وقتذاك لم يكن يهمنا كثيراً احداث الحرب العالمية الأولى بقدر ما نحن مقبلون عليه يوم غد .

جدول الذكريات يتدفق احياناً وسيكون لنا عودة الى هذا الموضوع وغيره حينما تحين الفرصة ، وذكريات مرحلة الشباب جميلة ليس الى نسيانها سبيل .

اليوم في اقليم كوردستان كما في عموم العراق ، من المفروض ان لا يكون مكان لعمليات الثأر والعداوات ، كما ينبغي ان لا يضطر الناس لحماية انفسهم وممتلكاتهم ، وينبغي ان يكون سلطان القانون فوق الجميع دون تفرقة او تمييز ، وإن مبادئ المواطنة تقتضي ان يعيش كل مواطن حياته ، وإن واجب الحكومة ان تحمي ممتلكاته وأن تضمن حريته وتحترم خصوصياته في بيته او قريته او ميدنته .

د. حبيب تومي / اوسلو في 23 / 06 / 13

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

961 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع