عصام شرتح
تعد مسألة الغموض والوضوح من المسائل المطروحة على الساحة النقدية في كل زمان ومكان؛ حتى لا يكاد باحث أو ناقد أو دارس في حقل الشعر والشعرية إلا أفاض واستفاض في هذه المسـألة الشائكة؛ وقد طرح هذه القضية كبار الدارسين والنقاد العرب أهمهم:
أدونيس، علي جعفر العلاق، صلاح فضل، كمال أبو ديب، ناهيك عن مئات المقالات والبحوث النقدية التي طرحت هذا الموضوع على أكثر من محور،وأكثر من منظور لدرجة نحتاج معها إلى مئات الصفحات ،لن نكرر ما قيل فيها؛وسنبحث في هذه القضية تحديداً في ثلاثة أمور، أو متعلقات معرفية، وفق المنظورات التالية:
1-الغموض الرؤيوي، أو غموض الرؤية
إن الغموض في الشعر الرؤيوي شرط جوهري في تحقيق شعرية النص؛ لأن الشاعر المبدع هو الذي يخلق الغموض الذي يكثف دلالات النص،ورؤاه، ولا ينبغي للشاعر الرؤيوي أن يخلق نصوصاً تفسيرية ، لان النص الإبداعي الحقيقي لا يفسر،ولا ينبغي تفسيره؛ هو متمرد على حاجز المدلول الواحد والنظرة الأحادية، إنه غابة من الرؤى المكثفة المتداخلة، والخيوط المتناسلة المتشابكة لدرجة لا تبين الخطوط، والفواعل الرؤيوية في القصيدة؛وهذا ليس عيباً في النص ،وليس قصوراً في المتلقي؛ وإنما هو تحليق للنص، واستعلاءٌ رؤيويٌّ له؛ فليس من الضروري أن ينتج المبدع نصاً مسطحاً مألوفاً سهلاً بسيطا؛ وإنما المبدع هو الذي يخلق النص بعيداً عن التفكير بقارئه وسويته ؛ عليه أن يكتب الإبداع،وليس عليه أن يترجم الإبداع ويفسر الرؤية،ولهذا أضحك من سذاجة بعض الشعراء الذين يكثرون من الحواشي التوضيحة أو المفسرة لنصوصهم ؛ النص الإبداعي لم يخلق للتفسير ،وإنما خلق للادهاش والمماحكة الإبداعية ؛ومن فهم الإبداع تفسيراً أو مقاساً مطرداً؛ فإنه لا شك فهم الإبداع فهماً معكوساً؛وهؤلاء- بالتأكيد- لم يفهموا حقيقة الإبداع وحقيقة الشعرية؛ فالشعرية لا تقاس بشدة الغموض؛ ولا تقاس بشدة الوضوح؛وإنما تقاس بسوية الرؤية التي تبثها القصيدة ؛ومستوى الرؤى المبتكرة ؛ومستوى تناسلها الرؤيوي وتوالدها الإيحائي على الدوام.
وباعتقادي: إن الفهم المتداول حول هذه المسألة جعل أي باحث يخوض في هذه المسألة منبوذاً أو متقادماً في فكره النقدي ،ونحن في هذه المسألة نريد أن نقول : إن الغموض حاجة ماسة تفرضها النصوص الرؤيوية؛ لدرجة أن شعريتها لا تتحقق إطلاقاً بمعزل عن هذه الخاصية أو التقنية المؤثرة ،ولا يمكن لنص من النصوص الرؤيوية المؤثرة أن يُفرِّط بهذه التقنية لأنها شرط تكوينه كما من شروط خلق الإنسان القلب أو الرأس؛ فكما لا يمكن أن نتصور إنساناً بلا رأس أو قلب كذلك لا يمكن أن نتصور نصاً رؤيوياً بمعزل عن الغموض أو أن الغموض لا يشكل محور تكثيف الرؤية وتشعب دلالاتها الموحية؛ ومن أجل هذا خلط النقاد في أشكال الشعر التي تتقبل هذه التقنية والنصوص التي لا تتقبلها إطلاقاً؛ فمثلاً النصوص الشعرية (المناسباتية) هي النصوص التي لا تتقبل الغموض؛ وكذلك النصوص السياسية الخطابية أو التوجيهية فإن درجة الغموض فيها تقلل من شعريتها،وإنما تضعف من شعريتها،وكلما ارتفعت درجة الغموض في هذه القصائد كلما فقدت تقبلها الرائج؛ وفقدت من ثم رسالتها السياسية ومضمونها السياسي.
وهذا الأمر مرفوض كذلك في النصوص الغزلية فإن درجة الغموض ينبغي أن تكون طفيفة وليست كثيفة وإلا فقدت النصوص الغزلية حرارتها العاطفية وتوقها المشبوبزفاعية تقبلها الآسر من قبل المتلقي،وهذا ما عمد إليه شاعرنا الكبير نزار قباني.
إذاً؛ الغموض يرتفع بحسب القصيدة والشكل الإبداعي، فكما أن الغموض مرفوض في القصائد السياسية والغزلية ويكون عبئاً عليها وعلى فاعلية تلقيها‘ فإنه يكون في القصائد الصوفية والقصائد الرؤيوية ضرورة ماسة، لا غنى عنها في خلق إثارتها ومحرقها الفني.
2-الغموض الخلاق أو الشاعري:
يكون الغموض شاعرياً عندما يخلق الشعرية، أو يسهم في خلق الشعرية؛ وهذا الغموض غالباً ما أسماه المبدعون والنقاد الغموض الشفيف؛ ولعل أبرز من أشار إلى هذا الغموض الشاعر الفلسطيني صالح هواري، فيرى الهواري أن الغموض الشفيف من الشروط اللازمة لخلق النص الجميل أو النص الجمالي؛ لكنه فاته ألتمييز بين أنواع النصوص؛وقد سبق أن أشرنا إلى أن الكثير من النصوص الإبداعية تفقد شعريتها عندما تخسر هذا الحجاب السميك الذي يجعلها بمنأى عن متناول القارئ،ولا نبالغ في قولنا : إن لذة شعرية أدونيس في الكثير من نتاجاته الشعرية تعود إلى شعرية الغموض التي تغلف قصائده، ولانذهب بعيداً في قولنا: إن ديوانه (تنبأ أيها الأعمى)،وديوانه( وراق يبيع كتب النجوم) من أجمل القصائد التي شهدتها تجربة أدونيس في الغموض الكثيف الذي كان رائد شعريته؛ وهذا القول ينطبق على بعض قصائد فايز خضور،ومحمد علي شمس الدين التي تغرق في الصوفية ومفرداتها ورموزها المكثفة.
وبتقديرنا : إن الغموض الشفيف أو الخلاق في مفهوم بعض المبدعين، ليس الغموض الذي يعقد الرؤية ،وإنما الغموض الذي يحرك الصورة ويهبها الكثير من أسهمها الإبداعية،وهذا الغموض هو جواز العبور إلى كل النصوص الإبداعية بلا استثناء،وهذا الفهم خاطئ، وبعيد عن دائرة الحقيقة الإبداعية أو الممارسة الإبداعية النشطة في إفرازاتها الإبداعية المعاصرة؛ فالكثير من النصوص المؤثرة اليوم هي أشبه بالأدغال أو الغابات الرؤيوية المكثفة التي تعزف على أكثر من رؤية ،وأكثر من منظور ، وأكثر من رمز ، إنها أشبه بحقول رمزية ودلالات توالدية تتشابك وتمحي لتظهر دلالات جديدة، ورؤى جديدة،وهذه النصوص هي التي تؤثر،وهي التي تحفز؛ وهي التي تثير؛ وهي التي تقبل القراءات المتتابعة؛ وربما تقبل القراءات المتناقضة والمتصارعة؛وهذا يعني أن النصوص المراوغة هي التي تبقى في دائرة الارتياد الدائب والحراك المستمر؛ولهذا تختلف معايير الجمال باختلاف الرؤى النصية في هذا العمل أو ذاك؛ولا نبالغ في قولنا: إن النصوص الإبداعية هي النصوص الغامضة التي تملك أنفتها واستعلاءها،ولا يمكن لقراءة أو قراءتين أن تشبعاها؛ إنها أشبه باللهيب أو النار التي تأكل كل شيء، وتبقى بانتظار المزيد؛ هذه النصوص هي التي تكون فوق النقد وتكون جوهر النقد في تناميه وتطوره،ولا أبالغ في قولي: إن الكثير من القصائد العظيمة لبدوي الجبل كان مصدر غناها الجمالي غموضها ودرجة تكثيف الصورة، وسحر الإيقاع هو الذي أكسبها هذه القدرة والفاعلية والتأثير.
وما ينبغي تأكيده أن مسألة الغموض الشفيف ضرورة للنصوص السطحية أو النصوص أحادية الرؤية، أو المنظور،وهذه النصوص الشعرية مهما كانت عظمتها لاتزن ذبابة في حيز الإبداع الخالد الذي يستقطب الدراسات ويقبل الدراسات المعاكسة أو المتناقضة التي لا تركن لرؤية أو منظور أو دلالات محددة, بمعنى أدق : لا تركن لما هو ثابت، أنها متغيرة منفلتة من عقال التنميط،والتأطير،والانقياد.
3-الغموض السلبي أو الغموض اللاشعري:
وهو الغموض القاتل للشعرية؛ وهذا النوع من الغموض هو الغموض الذي لا يتعلق بالرؤية الشعرية؛ وإنما بالقشور؛ ولهذا يعد هذا الغموض ( الغموض السلبي) أو ( الغموض اللاشعري)،وفي هذا النوع يقدم بعض الشعراء إلى تلغيز القصيدة؛ ليكون الغموض فيها ليس ناتجاً عن مقوم جوهري تفرضه القصيدة،وإنما مسقطاً على القصيدة من الخارج ، أي تكون الرؤية أحادية؛ والرموز متشعبة،وتعد مثل هذه القصائد هي أسوء أنواع القصائد؛ وأقلها شعرية لأن أصحابها اصطنعوا الغموض اصطناعاً، فالقصيدة في واد على صعيد الرؤية، والصور في واد على صعيد تنامي الدلالات وتناسلاتها الإيحائية،ولهذا فإن الشعراء أصحاب هذا الاتجاه ليسوا شعراء لا في الغموض؛ ولا في الوضوح،وإنما هم ضحية تقليد أعمى لا يقدم نصوصهم الإبداعية قيد أنملة بقدر ما يؤخرها على المستوى الإبداعي، وهؤلاء الشعراء سرعان ما يسقطون؛وتسقط نصوصهم؛ لأن نصوصهم لم تنطوٍ على فكر عميق؛ ورؤية مواربة تخلق غموضها بمقتضاها الإبداعي ولاشيء سواه.
وصفوة القول:إن الغموض والوضوح مسألة مفتوحة تحددها طبيعة النصوص الإبداعية ذاتها، فالغموض لا يكون شعرياً إلا إذا كان فاعلاً من فواعلها الرؤيوية؛ وباعثاً لمنتوجها الإيحائي، ومن أراد أن يتلاعب بهذه التقنية إغراقاً أو إسقاطاُ ستسقط نصوصه لا محالة في دائرة التشويه والتيه والضياع الذي لا طائل منه؛ ظناً منه أن تجربته تتطور بتفعيل هذه التقنية اصطناعاً؛ ولا يدري أن تطورها يعود بها إلى الوراء وليس للأمام.والأمثلة على ذلك كثير من شعراء الحداثة.
939 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع