خالد القشطيني
لبغداد لمعان قوي في قلوب الكثيرين. ولكنهم ما أن يطأوا أرضها في العهود القريبة حتى تصيبهم خيبة كبيرة. يعود ذلك اللمعان لما يقرأونه في الكتب عنها. كانت حتى سقوطها بيد المغول، العاصمة الحضارية للعالم، مثل باريس ولندن الآن. ما أن يسمع الغرباء مني أنني من أبنائها، حتى يولوني باحترام وإكبار خاص دون أن يدركوا ما آلت إليه من خراب وفوضى. يؤسفني أن أقول إن كثيرًا من فتياننا وفتياتنا استطاعوا – رغم ذلك - أن يستغلوا اسمها في الخارج لشتى الأغراض غير المشرفة.
وقد عبر الشاعر الشعبي عن حبه لبغداد في قوله «بغداد مبنية بتمر، احفر وكل خستاوي»!
بفضل المكانة التي تحتلها بغداد في قلوب العرب، شاع استعمال اسمها في الكثير من الميادين. قلما يوجد بلد عربي دون عائلة راقية تحمل لقب «البغدادي». والبغدادي في لبنان اسم لموال يعتبر من أرق أغاني المواويل الشامية. وفي مصر يطلقون كلمة «البغدادلي» على أعمال الخشب المشبك الدقيق.
و«البغدادية» ضرب من الملابس الأنيقة ورد ذكره في «محيط المحيط». وأصبحت كلمة «التبغدد» كلمة شائعة الاستعمال في عموم العالم العربي والقواميس العربية للإشارة إلى الدلال والدلع والتأنق والغنج. تسمعهم يقولون «فلان يتبغدد عليّ!» وهو ما أشار إليه الجواهري في نونيته الشهيرة عن بغداد ودجلتها:
يا أم بغداد من ظرف ومن غنج
مشى التبغدد حتى في الدهاقين
يا أم تلك التي من ألف ليلتها
للآن يعبق عطر في التلاحين
في هذه القصيدة الخالدة «دجلة الخير» وسواها من قصائده الرومانطيقية عبر شاعرنا عن تلك العاطفة التي اجتاحت قلوب سائر شعراء العراق، حنينهم لبغداد، ابتداء من أبي زريق البغدادي بعد رحيله للأندلس:
استودع الله في بغداد لي قمرا
بالكرخ من موطن الأفلاك مطلعه
إلى معروف الرصافي الذي كتب في منفاه بعيدًا عنها ساخطًا عليها فقال:
إليك يا بغداد عني
فإني لست منك ولست مني
ولكني وإن كبر التجني
يعز يا بغداد أني
أراك على شفى هول شديد
هكذا عبر الرصافي عن تشاؤمه من مستقبل مدينة المنصور والرشيد، بيد أن الشاعر النجفي مصطفى جمال الدين رآها بألوان أخرى فعبر عن إيمانه بها وأمله المشرق لمستقبلها في أيامنا هذه فقال:
بغداد ما اشتبكت عليك الأعصر
إلا ذوت، ووريق غصنك أخضر!
ويعود الجواهري فيتذكر أمجاد بغداد في ترفها وزهائها:
بغداد كان المجد عند قينة
تلهو وعودًا يستحث الضاربا
إذا كنا نتضايق في هذه الأيام من «تبغدد» المرأة الأوروبية، فقد سبقنا لذلك
المتنبي في انطباعه عن ترف المرأة البغدادية:
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام ماثلة
أوراكهن صقيلات العراقيب!
والظاهر أن البيت الأخير استثارهن فهجمن على الشاعر بأحذيتهن العالية وأشبعنه ضربًا. لكل هذا الكلام بعده السياسي. إن تعلق العراقيين ببغداد لن يحملهم قط، عربًا كانوا أو كردًا أو تركمانًا، على الانفصال منها.
973 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع