خالد القشطيني
عندما كنت أعمل في «إذاعة لندن»، حدثتني الزميلة المذيعة أولغا جويدة عن مأساة لقلقية خلدت في ذاكرتها، عندما كانت صبية مع والدها، قائمقام قضاء سنجار في الأربعينات.
نعم إنه هو القضاء نفسه الذي شهد كل هذه المآسي والمعارك مؤخرًا على هامش ما قام به «داعش». لكنها كانت في الأربعينات أيام خير. لم يتعرض أهلها، الإيزيديون، لما تعرضوا له مؤخرًا من سبي وذبح.
لم يكن هناك من المنائر ما كان في بغداد، ولكن كانت فيها بعض الأشجار الباسقة التي لم يكن لها مثيل في بغداد. كانت هناك شجرة بلوط شامخة أمام قصر القائمقام. واعتادت الطفلة أولغا على التفرج عليها وعلى ما يجري حولها من أحداث. المعروف عن اللقالق أنها كانت تبني عشها على حجمها بحيث تجاوز بعضها المتر أو المترين، وكذا كان العش الذي اعتاد معشر اللقالق على العيش فيه في مهجرها هذا. وكانت توسعه من عام لعام وتحافظ عليه.
وعلى عادة الطيور، تناوب الذكر والأنثى على احتضان ما وضعته الأنثى من بيض فيه. يطير الذكر ليأكل ويشرب ويحمل مما أكل شيئًا لأنثاه. ثم تطير الأنثى لتفعل مثل فعله. هكذا تناوب الاثنان على احتضان البيض في كل مودة وحرص.
لاحظت أولغا أن الذكر لم يطر طوال يوم كامل. ولم يظهر الاثنان على عادتهما فوق العش. أين ذهبت الأنثى؟ وتكرر ذلك في اليوم التالي. راح الذكر يطير في جولات قصيرة مضطربة، يبحث عن أنثاه ويأكل سريعًا ويعود سريعًا للعش ليواصل مهمة الحضن الغريزية. أدرك السكان المجاورون أن شيئًا غير طبيعي قد جرى.
ربما قتل صياد الأنثى أو وقعت في شرك. راحوا يبحثون عن أثرها دون نتيجة. لم يجد السكان الإيزيديون غير أن يعفوا الذكر مشقة البحث فراحوا يضعون الطعام له تحت الشجرة. ينزل ويأكل بسرعة ويعود لعشه كسير الخاطر. مرت أيام على هذه الحالة، والصغيرة أولغا تراقب سير القصة.
استفاقت على زعيق اللقلقات منطلقًا من جهة الشجرة. وإذا بزوج من اللقالق يتقافزان على الأغصان ويصرخان ويهجمان وينسحبان. صخب وحراك متواصل. اجتمع السكان ليروا هذه المعركة الجارية تقودها الأنثى الخائنة لتطرد زوجها من عشه وتستولي عليه وهو يدافع بمنقاره وجناحيه، ويضرب بها دفاعًا. لكنها كانت معركة غير متكافئة، فسرعان ما بدا الدم يخضب ريشه، وجناحه ويتهاوى يائسًا، حتى سقط على الأرض خائر القوى. راح بعض الأولاد يضربون اللقلقة الخائنة وعشيقها الجديد حتى تهاوى العش وتبعثر وسقطت البيضات بجانب الزوج الكسير.
انفلقت واختلط المح بدم الأب. تجمع القوم حوله ليروه يلفظ أنفاسه الأخيرة. وبمثل ما هاجما الشجرة الموطن، نشرا أجنحتهما وطارا هربًا من حجارة الأولاد وصياحهم.
بادر الإيزيديون فحفروا قبرًا واروا فيه اللقلق القتيل وبيضه المهشم. مع شاهد يؤرخ الحادث. قالت الزميلة: «ما شفت بحياتي الناس يزورون قبرًا ويقفون عنده في حزن عميق كما رأيتهم يفعلون ذلك عند قبر هذا اللقلق ضحية الخيانة الزوجية».
871 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع