خالد القشطيني
كانت الخمسينات تشكل العصر الذهبي للفكر العراقي المعاصر. ففيها جرت الأعمال الكبرى في عالم الفن والأدب، وتبرعمت شتى الجمعيات الأدبية والفنية كجماعة الزبانية التي احتضنت الشاعرين سعدي يوسف وزاهد محمد والقصاص يحيى عبد المجيد والكاتب الصحافي رشدي العامل.
في عام 1965 بادر صالح اليوسفي لإصدار جريدة «التآخي» التي أصبحت جزءًا من تاريخ الصحافة العراقية والنضال القومي للأكراد. ساهم فيها رشدي العامل بزاوية سماها «نصف عمود»، ولقيت إقبالاً شعبيًا كبيرًا بين الأدباتية اليساريين. كان ينشرها غفلاً من التوقيع الصريح، فتحير الأدباء في هوية الكاتب، ومن يا ترى يكون. كان من متابعيها صديقي زاهد محمد. لمس أنفاس صديقه العاملي في نصف العمود هذا، فبعث إليه بقصيدة، تركها هي الأخرى دون توقيع. فلما وصلت إلى الإدارة حاروا في أمرها.
لمسوا فيها ظرافة أدبية لذيذة ونكهة إخوانية. عجز المحرر عن معرفة الشاعر، فمررها إلى الآخرين عسى أن يكون أحدهم هو المعني بها. تنقلت من يد إلى يد حتى وصلت إلى طاولة رشدي. راح يتمتم بشفتيه وهو يقرأ مع نفسه:
يا «وغد» عدت لنا وعودك يا خفيف الظل حلو ولقد حسبتك لا تمل اللهو حين يُمل لهو فإذا يراعك في ضباب الشرب أشرعة وصحو وإذا بصوتك إذ يطول بنا الطريق الجهم حدو فلأنت بين خيولنا المكدودة الشمطاء فلو خببا يسير، وتارة عدوا إذا ما جد عدو لك في جيوب الليل صولات وفي العتمات خطو سكر السقاة فعمدوك بشربة فانساب شدو
ما إن وصل رشدي إلى هذين البيتين حتى هتف «هذا آني! هذا أنا المقصود». تذكر تلك الواقعة التي كان فيها مع الشاعر زاهد وبقية زمرة الزبانية في جلسة إخوانية في مقهى السويس يوم داعبوا الكاتب السياسي فصبوا الشراب على رأسه فعمدوه به. وكشف لزملائه أسرار تلك الجلسة وهوية الشاعر. ومضى يقرأ: وترنح البوفيه من زهو، وحق لذاك زهو فلأنت فارسه ونبع هنائه والليل رخو ولأنت بعدُ، على جبين الكوكب الأرضي سهو فتناول رشدي القلم وأضاف أنه كان يستغل غيابه فيقتحم مكتبه بأصدقائه، ويعيثون فيه فسادا: يا من تحل بمكتبي الحرمات حين يتاح سطو هلا استحيت وأنت تدلف مثلما ينسل جرو للمكتب المهيوب تهتك ستره والليل خلو قسما بأنك كنت قائدهم وأن العذر لغو أما «الزبانية» الأُلى تبعوك حيث يطيب لهو فهُمو كشأنك، ملح هذي الأرض، مهما جار هجو يا صاحب القلم الرشيق، وأنت للأقلام كفو لا تنس «مرفأنا القديم»، فأنت رغم البعد عضو فلطالما حضنتك منه حديقة واشتاق بهو
فاشدد حزامك يزدهي بك محفل ويطيب صفو كنا في ذلك الصفو من أيام الخير قد اعتدنا على ختام السهرة في الباب الشرقي، بعشاء من كبة البرغل، كبة فتاح الشهيرة، فذكر صاحبه بها بهذه اللفتة الحلوة: هي «كبة» تلك المباهج يا لعين، وأنت حشو.
1049 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع