د. سامان سوراني
بالأمس رحل عنّا شخص فذ مولود في الثالث والعشرين من ديسمبر/كانون الأول عام 1918 في مدينة هامبورغ عن عمر ناهز الـ ٩٦ سنة.
هذا الشخص کان نابع من أحضان أسرة بسيطة ، عاش من أجل السیاسة بعد أن تدرج في مناصب حزبية و سياسية ووصل في عام ١٩٧٤ الی أعلی منصب سياسي في المانیا ألا وهو منصب المستشار ، فصار بعد أستقالة السياسي الإنساني المشهور في الحزب الدیمقراطي الإشتراکي والحاصل علی جائزة نوبل للسلام عام ١٩٧١ فيلي برانت (13 ديسمبر 1913 - 8 أكتوبر 1992) المستشار الخامس لجمهورية ألمانيا الاتحادية حتی عام ١٩٨٢.
هلموت شمیدت الطموح الی الشهرة لا الی السلطة کان صاحب العقل الإقتصادي الأول في بلده وهو صاحب نظريات مستقبلية في السياسة العالمية وأحد رواد الوحدة الأوروبية المسالمة. ترك بصماته الواضحة في تاريخ ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية و ترك خلفه بالأخص ثقافة السیاسة بعد زرعه سیاسة التسامح في المانیا والإنفتاح علی العالم.
في فترة حکمە کان الصراع الإیدیولوجي بين الرأسمالیة والإشتراکیة في أوجه ، تمکن هو بحنکته السیاسیة أن یبرز قدرته في التفاوض وإیجاد حلول سلمیة للصراع الدائر بین الشرق والغرب أیام الحرب الباردة.
کان هذا القيادي الاشتراكي الديموقراطي السابق مفرطاً في التدخين إلا أنە بقی رجل المواقف الصعبة، ففي كارثة فيضان هامبورغ في فيبرایر ١٩٦٢ استطاع کوزير للداخلية بخبرته الاقتصادية والسياسية والعسکرية أن يلعب دوراً هاماً في عملية الإنقاذ وتلافي أثار الكارثة التي هددت حياة ما يقارب ثلاثمائة ألف شخص.
في فترة حکمه واجهت المانیا أزمات أمنیة كبيرة ، منها بروز جماعة أطلقت علی نفسها "جماعة الجیش الأحمر" ، کانت تعرف أیضا بمجموعة بادر ماینهوف ، إحدى أبرز وأنشط الجماعات اليسارية المسلحة بألمانيا الغربية ما بعد الحرب وکانت تسمی تلك الفترة بـ"الخريف الألماني". وقد أستطاع هو بحکم فطنته السیاسیة الخروج من أزمة السبعینیات بذكاء و بأقل خسارة وقد أعلن هو عن عزمه في التنحي عن منصبه فيما إذا أخفقت جهود حكومته في حلّ أزمة اختطاف طائرة تابعة للخطوط الجوية الألمانية لوفتهانزا من قبل إحدى الفصائل الفلسطينية والتي هبط بها في مطار مقديشو عام ١٩٧٧.
إنسحب هلموت شمیدت قبل ثلاثة عقود من السیاسة ، لکنه كان خير مساهم في النقاشات السیاسیة والثقافية علی المستویین الأوروبي والعالمي.
هنا بعض من أفکاره مستقاة من خطاب لە القاه بتاريخ 2012.09.22 بمناسبة تكريمه لحصوله علی جائزة ويستفاليا الألمانية للسلام:
"الألمان فهموا أخيراً بأنهم أوروبيين ولا يجوز لهم الرجوع الى اللعبة القديمة، أي لعبة ميزان القوى في أوروبا، بل عليهم أيّاً كانت النوايا والاستراتيجيات العمل بجدية في إستخلاص النتائج الإيجابية اللازمة من تجارب القرون الأربعة الماضية، وهي كما يلي:
أولاً: تجارب التاريخ علّمت الأمم الأوروبية وبالأخص قياداتها، بأن نتائج كل المحاولات السابقة في بناء قوة مركزية أحادي القطب في أوربا كانت فاشلة، لذا لا يمكن أن يكون نصيب المحاولات المستقبلية في هذا الأمر غير الفشل. والمساعي الرامية من قبل الأتحاد الأوروبي لتعزيز قدرته في مجالات السياسة الخارجية، الإقتصادية ، المالية والأمنية عن طريق عقد معاهدات وسن قوانين تبقى دون فرصة كبير.
ثانياً: على الألمان أن يتذكروا في هذه الحالة كل من ونستون تشرشل، شارل ديغول، جورج مارشال، هنري ترومان وجورج بوش الأب لتسديد ما عليهم، لأن هؤلاء كانوا رجال دولة وقاموا بمساعدة الألمان في ظروفهم الصعبة. وهذا يعني أن على الألمان أن يدعموا الإتحاد الأوروبي بجدية وتكون مبادراتهم في سبيله هي الأولى . فالمادة 23، فقرة1 من الدستور الألماني تبسط الطريق لهذا الأمر، لأنها تسمح بالتعمق والإعتصام بحبل الإندماج بالطبع يحتاج تبنّي هذا المشروع الى أموال طائلة وعلى الألمان البدء به، وإلا كيف تمكنت دولة المانيا الإتحادية بأن تكون المستفيد الرئيسي من قضية الإندماج الأوروبي؟
ثالثاً: بغض النظر عن الدروس المستخلصة من تجارب القرون الماضية، يجب أن لا يكون الألمان سبب ولادة الجمود والتراجع أو إضمحلال مشروع الإتحاد الأوروبي. فالدول في القارات الأخرى تنتظر بفارغ الصبر كي يتصرف هذا الإتحاد أخيراً بصوت وحدوي وهذا يحتاج الى الإرادة الكاملة للعمل المشترك مع الفرنسيين والإرادة في العمل مع البولنديين بجدية أكثر. والإرادة في التعاون مع دول الأخرى الجوار تعتبر من الضروريات. فالألمان تغيّروا من حيث علاقاتهم بالعالم وتعلموا من ماضيهم. فهم يستطيعون إثبات ذلك بعد دراسة العواقب عن كثب وبإمعان بعيداً عن الاطروحات الطوباوي.
ومن البديهي بأن القارة القديمة تعيش اليوم صراع فكري، كما تشهد المناقشات الخصبة والسجالات الصاخبة حول القضايا الأوروبية المطروحة والأزمات الإقتصادية في بعض بلدانها، لكن كل ذلك لا ينقص من الحقيقة بإن تلك المجتمعات قامت بتغيير عدتها الفكرية ومهماتها الوجودية وعملت بشكل مثابر على إختلافاتها وحولّت فكرة الإتحاد الأوروبي الى واقع تداولي معاش أثّر في الحياة اليومية لجميع الناس وتجسّد ذلك بشكل خاص في العملة الموحدة، التي تسمى اليورو."
لقد بقی هذا الرجل رغم صراحته الموجعهلخصومه دیمقراطياً الی آخر نفس من سیکارته. ألف شميت نحو ثلاثين كتاباً وكان ناشراً (1983) ثم مديراً (1985- 1989) لصحيفة "Die Zeit" الأسبوعية الألمانية.
وختاما نقول: "هناك شيئين يفعلهما العظماء دائماً، وهو أنهم يُقررون ما يُريدون ثمّ يفعلوا ما يرُيدون، لأنهم يُدركون أهمية حياتهم على كوكب الأرض وأنّ لديهم رسالة خالدة لإسعاد أنفسهم والبشرية كلّها."
1089 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع