الشرق الأوسط/عارف الساعدي:في قصيدة للشاعر السوري عمر بهاء الدين الأميري، نقرأ تفاصيل كثيرة عن الأطفال وصخبهم اللذيذ، ومرثية في الوقت نفسه لتلك الأيام التي بدأ الشاعر يبحث عنها فلا يجدها، إن مثل هذه القصائد قد لا يتفاعل معها غير المتزوجين؛ لأنها تتحدث عن تفاصيل لا يمكن التفاعل معها من خلال التخيل فقط، إنما الغوص في تلابيبها سيمنحك طاقة للتلقي. وهي ذكرتني بقصيدة للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، كنَّا قبل الزواج نتهكم عليها لأننا لا نشعر بصدقها، وواقعيتها المحببة، حيث يقول في مطلعها:
لا تطرق الباب تدري أنَّهم رحلوا
خذ المفاتيح وافتح أيُّها الرجل
فهذا المطلع كان مصدر سخريتنا بصراحة، ولكن حين تزوجتُ، وأنجبت أطفالاً، رجعتُ لقصيدة عبد الرزاق عبد الواحد تلك، وقد ندمت كثيراً لأني تعاملت بسخرية مراهقة مع نص حقيقي يختصر رحلة الأب، وتعبه، ومن ثم يتركه أبناؤه بمجرد أنْ يكبروا.
أعود إلى الإشارة التي بعثها مهند، فقصيدة «عمر بهاء الدين الأميري» وقصيدة «عبد الرزاق عبد الواحد» رغم فخامة البناء التقليدي في نصيهما إلا أنهما نصَّان منغمسان في الحياة بكل تفاصيل البيت، وشغب الأطفال، ولعبهم، وشكواهم، وقد كنتُ أظن أنَّ هذه التفاصيل اليومية للبيت والعائلة لا يمكن أنْ تنتجها الهياكل الكلاسيكية، إنَّما هي بنت الحداثة، وعلى وجه التحديد بنت قصيدة النثر، التي من الممكن أنْ يكون فيها جدول مختلف تستحم فيه العائلة وتفاصيلها، فحتى النص الذي كتبه السياب عن ابنه غيلان «مرحى غيلان» لم يكن يتحدث عن تفاصيل الطفل مع أبيه، إنما كتب باستعارات وصور تشبيهية وتناصات أكبر من حجم وتلقائية الأطفال (ينساب صوتك في الظلام إليَّ كالمطر الغضير- ينساب من خلل النعاس وأنت ترقد في السرير- من أي رؤيا جاء؟ أي سماوة؟ أي انطلاق...) مع العلم أنَّ الشعر العربي لم يخل على الإطلاق من هذه الحميمية ما بين الأب وأطفاله، ولكن الغريب أن أهم الأنطولوجيات الشعرية - كما أظن - وهما ديوان الحماسة لأبي تمام، وديوان الشعر العربي لأدونيس، خاليان تماماً من أي شعر خاص وذاتي للشاعر مع أطفاله، ما عدا باباً يمكن أنْ يكون في جزء منه للعائلة وضعه أبو تمام في نهاية حماسته، ولكنه للأسف أسماه بـ«باب مذمة النساء» وما تحفل به الذاكرة الآن هو أشعار رثائية قيلت لأبناء الشعراء المتوفين، كقصائد ابن الرومي، أو قصيدة أبو تمام في رثاء ابنه، ورثائيات كثيرة جداً مثل هذا النوع، ولكننا لم نحفل كثيراً بنصوص تدوّن تفاصيل الأبناء، بطريقة حميمية مثلما فعل «أحمد شوقي» في قصيدته عن ابنته «يا حبذا أمينة وكلبها» حيث يقول:
يا حبذا أمينة وكلبُها
تحبُّه جداً كما يحبُّها
أمينتي تحبو إلى الحولين
وكلبها يناهز الشهرين
يلزمها نهارها وتلزمُه
ومثلما يكرمها لا تكرمه
فعندها من شدة الاشفاقِ
أنْ تأخذ الصغير بالخناقِ
في كل ساعة لها صياحُ
وقلَّما ينعمُ أو يرتاحُ
ولكن ما فعله عمر بهاء الدين وعبد الرزاق عبد الواحد أمرٌ مختلف، حيث نبرة الرثاء المختلفة عما تعودناه من رثائيات، فعمر بهاء الدين يقول في قصيدته والذي يُقال إن العقاد قال عنها «لو كان للأدب العالمي ديوان لكانت هذه القصيدة في طليعته»
أين الضجيج العذب والشغبُ
أين التدارس شابه اللعبُ؟
أين الطفولة في توقدها؟
أين الدمى في الأرض والكتبُ؟
أين التشاكس دونما غرضٍ؟
أين التشاكي ما له سبب؟
ثم يستغرق الأميري في تفاصيل أكثر حميمية وأبلغ حزناً وهي عبارة عن يوميات يعيشها كل أبٍ مع أطفاله؛ لذلك قال عنها العقاد إنها في طليعة الشعر العالمي، فالأميري يقول:
أين التسابق في مجاورتي
شغفاً إذا أكلوا وإنْ شربوا
فنشيدهم «بابا» إذا فرحوا
ووعيدهم «بابا» إذا غضبوا
بالأمس كانوا ملء منزلنا
واليوم ويح القلب قد ذهبوا
ثم يغوص الأميري بعد أن يكبر أبناؤه ويتفرقوا بعيداُ عنه، فليس له من مفرٍ إلا الذاكرة واستدعاء شغب الأطفال الذي يتمنَّاه الآن، ويكرهه في شبابه، حيث يقول:
في كل ركن منهم أثرٌ
وبكل زاوية لهم صخبُ
في النافذات زجاجها حطموا
في الحائط المدهون قد ثقبوا
في الباب قد كسروا مزالجه
وعليه قد رسموا وقد كتبوا
بعدها يختمها
هيهات ما كل البكا خورٌ
إني وبي عزم الرجال أبُ
عمر بهاء الدين استطاع أنْ يحول هذه التفاصيل التي تمر على كل أبٍ في هذا العالم من هامشها المزعج إلى نافذة يطل منها على ذاكرة، وكأنها مرثية لأيامه التي كان يلعب بها مع أبنائه ويصيح عليهم، أقول استطاع دون أنْ يتكلف وهو محبوس داخل الشطرين في أنْ يصنع نصاً نابضاً بالحركة والحياة، وكأنَّ قارئه يمسك بالأطفال وهم يرسمون على الأبواب، وهم يثقبون الجدران، وهم يتزاحمون على الجلوس مع الأب، كل هذه الحركة وغيرها كثير في النص، صنعها الصدق في القصيدة، وليست الدربة أو المهارة الشعرية، أو الاستعارات، إنما القصيدة خالية من البلاغة المعتادة، وتكاد تخلو من الصورة الشعرية بمعناها البلاغي، في حين القصيدة كاملة هي عبارة عن صورة في ألبوم احتفظ به صاحبه ليخرجه بعد أكثر من عشرين عاماً، يندب فيه تلك الأيام بأقل الكلمات وأبسطها إلى القلب؛ لأنها صادقة ومعبرة، وصدق التجربة متضافر مع الهم الكوني، يجعل من القصيدة مناخا يشترك فيه العالم كله؛ لذلك قال العقاد عن هذه القصيدة أنها ستقف في مقدمة الشعر العالمي، لأنها لو ترجمت سيتلقاها كل الناس ومن كل الاتجاهات بقبول وبتفاعل كبير لأنها تتناول هماً إنسانياً مشتركاً.
وبسبب هذا النص الذي اطلعتُ عليه تذكرت قصيدة عبد الرزاق عبد الواحد، تلك التي كنتُ أسخر من مطلعها، ولكني عاقبت نفسي فيما بعد، بأنَّي رحتُ أسخر من نفسي؛ وذلك لأنَّ النص قد لا يتفاعل معه العزَّاب كما ذكرت، والنص بصراحة مختلف عن تجربة عبد الرزاق عبد الواحد، تلك التجربة التي اعتدنا على جرسها العالي، وعلى لغتها الفخمة، وبنائها المتين، وسبكها الذي لا يقبل الضعف أو الهنة، إلا أنه هنا في هذه القصيدة يخرج عبد الرزاق عبد الواحد الإنسان وليس الشاعر المحترف، الذي قد يتحول الشعر بين يدي المحترفين إلى عادة بسبب التكرار، فتنطفئ لحظتها جمرات الدهشة، أعود إلى نص عبد الرزاق عبد الواحد حيث يقول:
لا تطرق الباب تدري أنَّهم رحلوا
خذ المفاتيح وافتح أيها الرجل
أدري ستذهب تستقصي نوافذهم
كما دأبت، وتسعى حيثما دخلوا
تراقب الزاد هل ناموا وما أكلوا؟
وتطفئ النور... لو... لو... مرة فعلوا
ثم يغوص عبد الرزاق كما غاص بهاء الدين بتفاصيل حميمية يمرُّ بها الآباء
لا تطرق الباب كانوا حين تطرقها
لا ينزلون إليها... كنتَ تنفعلُ
ويضحكون وقد تقسو فتشتمهم
وأنت في السر مشبوب الهوى جذلُ
حتى إذا فتحوها والتقيتَ بهم
كادت عيونك فرط الحب تنهملُ
عبد الرزاق عبد الواحد يتنازل من علياء قصيدته التي عُرف بها واندمغ أسلوبه بفخامة البناء، ينزل لهوامش الهوامش في بيته بعد أنْ كبر أولاده، وكلٌّ في جهة قد غادر يقول:
لا تطرق الباب، من يومين تطرقها
لكنهم يا غزير الشيب ما نزلوا
ستبصر الغرف البكماء مطفأة
أضواؤها، وبقاياهم بها هملُ
قمصانهم، كتبٌ في الرفِّ أشرطة
على الأسرِّة عافوها وما سألوا
كانت أعزَّ عليهم من نواظرهم
وها عليها سروب النمل تقتتلُ
وسوف تلقى لقىً كم شاكسوك لكي
تبقى لهم، ثم عافوهنَّ وارتحلوا
خذها لماذا إذن تبكي، وتلثمها
كانت أعزَّ مناهم هذه القبلُ
يشترك هنا عبد الرزاق عبد الواحد مع عمر بهاء الدين في هذه القصيدة بخصيصة الصدق، وليست البلاغة المعتادة، إنَّها بلاغة البيوت التي تفرغ، وبلاغة الحنين الذي ينزف، وبلاغة الذاكرة التي تنوء بحركة الأطفال الذين كبروا بسرعة، وغادروا بسرعة، هذه البلاغة فرضتها طبيعة الموضوعة المعالجة، فغيرت بجوهر الكتابة لدى الشاعر نفسه، فعبد الرزاق عبد الواحد وعلى الرغم من محافظته في هذا النص على البناء العالي، وهذه طبيعة العراقيين في الكتابة على ما يبدو، فإنه استطاع أنْ يوظف الهامش اليومي الذي يمر على كل أبٍ وفي كل يوم، من دون صور استعارية أو تشبيهية، فما الذي يصنع من تفاصيل الأطفال وعراكهم وصراخهم شعرية عالية؟ وهي خالية من الاستعارات والصور التي اعتدنا عليها؟ إذن هو الصدق الملفوف باللغة والمختمر بالتجربة سينتج خبزة ساخنة في تنور القصيدة، عندها فقط سنعترف بأنّ «أجمل الشعر أصدقه»، وبأنَّ الصدق في القصيدة هو الاستعارة الكبرى التي لا تضاهيها أكثر الصور مهارة، وبأي شكلٍ من أشكال الكتابة.
781 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع