ضغوط الداخل الإيراني تفتح نافذة لفك ارتباط تدريجي واستقلال إستراتيجي.
العراق يشهد لحظة دقيقة من إعادة التوازن بين النفوذ الإيراني والضغوط الأميركية. فبعد نجاحه في إبقاء البلاد على الحياد خلال الحرب الإيرانية–الإسرائيلية عام 2025، بدأ رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مسارا حذرا لتقليص نفوذ الميليشيات الموالية لطهران وتعزيز سلطة الدولة.
العرب/بغداد - يسير رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني على حبل دقيق بين تأكيد سيادة بلاده والحفاظ على علاقاتها مع إيران وميليشياتها الحليفة داخل العراق، التي يعتمد عليها في الحصول على الدعم السياسي.
ورغم الضغوط الهائلة، نجح السوداني في الحفاظ على حياد العراق خلال حرب إيران–إسرائيل في يونيو 2025، ومنع الميليشيات الموالية لطهران – المنضوية ضمن قوات الحشد الشعبي – من الانخراط في القتال.
وترى الباحثة باتريسيا كرم في تقرير نشره المعهد العربي لواشنطن أن هذا التوازن الدقيق يُعد بداية إعادة تموضع تدريجية في السياسة الخارجية لبغداد، في إطار مسعى لتقليص اعتمادها على طهران، وتعزيز سلطتها على مؤسسات الدولة، والحد من النفوذ السياسي والمالي للحشد الشعبي.
وحافظت الميليشيات الموالية لإيران على صمتها اللافت أثناء المواجهة بين طهران وتل أبيب، وامتنعت عن فتح جبهة جديدة على الأراضي العراقية.
وقد يكون هذا الانضباط ناجماً عن ضغوط داخلية وتجنب كلفة التصعيد، لكن قبولها الضمني بحياد العراق أتاح للحكومة مساحة للمناورة وحماية مصالحها. ويبقى التحدي أمام بغداد هو تحييد الحشد الشعبي تدريجياً دون مواجهة داخلية قد تُهدد الاستقرار.
ويحدث هذا التحول المهم بقيادة السوداني، المدعوم من الإطار التنسيقي، وهو تحالف فضفاض من الأحزاب الموالية لإيران. وتشير خطواته المتأنية لكنها ثابتة إلى احتمال تمكّن العراق من استعادة سيادته ورسم مسار أكثر استقلالية.
ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية في نوفمبر المقبل – التي قد تُرسّخ هيمنة الميليشيات أو تفتح الباب أمام القوى الوطنية والإصلاحية – ستحدد نتائجها ما إذا كان العراق قادراً أخيراً على تجاوز مرحلة الصراع الإقليمي ليصبح دولة قادرة على تقرير مصيرها.
ولم تختبر المواجهة الإيرانية–الإسرائيلية في يونيو 2025، ولا الحرب الإسرائيلية في لبنان (2023–2024)، فقط موازين القوى الإقليمية، بل وضعت استقلال دول مثل العراق أمام اختبار حقيقي، بعد عقود من تغلغل النفوذ الإيراني ضمن ما يسمى بـ”استراتيجية الدفاع المتقدم” التي تعتمد على شبكة من الوكلاء ضمن محور المقاومة.
وبدأ العراق يتخذ خطوات حذرة لاستعادة سيادته، متجنباً تداعيات الصراعات الإقليمية، وساعياً لتقليص الامتيازات السياسية والاقتصادية التي راكمتها الميليشيات خلال العقد الماضي.
وتساعد الضغوط الداخلية التي تواجهها إيران على توسيع هامش الحركة أمام بغداد؛ فإيران – رغم صلابتها الأمنية وقدرتها على امتصاص العقوبات – تعاني من عقوبات متزايدة واقتصاد راكد واضطرابات اجتماعية وغموض بشأن خلافة المرشد علي خامنئي.
وتدفع هذه التحديات طهران للاعتماد أكثر على نفوذها الخارجي، لا سيما في العراق الذي يمثل لها شرياناً اقتصادياً واستراتيجياً. وفي المقابل، تسعى دول الخليج وتركيا إلى ترسيخ حضورها الاقتصادي في العراق عبر مشاريع تربط بغداد بشبكات إقليمية، ما يحدّ تدريجيا من الهيمنة الإيرانية.
واستثمرت السعودية في مشاريع الطاقة الشمسية في النجف، وتسعى لربط شبكة الكهرباء العراقية بشبكة الخليج بدلاً من الاعتماد على إيران.
وتوسّع الإمارات بدورها استثماراتها في البصرة، بينما تنفذ تركيا مشروع “طريق التنمية” العملاق بقيمة 17 مليار دولار، الذي سيربط ميناء الفاو بالخليج بأوروبا عبر تركيا، مما يجعل العراق مركزاً محورياً للتجارة الإقليمية.
وتُعد قوات الحشد الشعبي الركيزة الأساسية لنفوذ طهران في العراق. فهذه المجموعات – التي تأسست عام 2014 لمحاربة تنظيم داعش – تم دمجها شكلياً في الجيش العراقي عام 2016، لكنها بقيت خاضعة فعلياً لإشراف الحرس الثوري الإيراني.
وتتمتع هذه الفصائل باستقلال مالي وعسكري، وتتحكم بمنافذ حدودية وشبكات تهريب وتجارة وقود غير مشروعة. كما تدير مشاريع اقتصادية عبر شركة المهندس العامة، التي تأسست برأسمال أولي قدره 67 مليون دولار.
وتُقدَّر مخصصات الحشد في موازنة 2024 بـ3.5 مليارات دولار. وتستخدم هذه الموارد لدعم النفوذ الإيراني والالتفاف على العقوبات، إذ يُقدّر أن العراق يخسر نحو 2.3 مليار دولار سنوياً بسبب الفساد في المنافذ الحدودية. وقد تمثل الانتخابات البرلمانية المقررة في 11 نوفمبر 2025 فرصة لإعادة التوازن، لكن احتمالات التغيير تبقى محدودة.
ويُعَد التيار الصدري بقيادة مقتدى الصدر أبرز المنافسين للنفوذ الإيراني، ويحظى بقاعدة شعبية واسعة رغم انسحابه من البرلمان عام 2022. وأما حركات احتجاج تشرين 2019، فرغم ضعف تنظيمها، ما زالت تحظى بشرعية أخلاقية قد تساعدها على التأثير في المزاج العام. لكن الفصائل المدعومة من إيران لن تقف مكتوفة الأيدي، إذ تمتلك أدوات السيطرة والتمويل والإعلام لترجيح كفتها انتخابياً.
ورغم تراجع اهتمام واشنطن بالانخراط العميق في العراق بعد عقدين من الحرب، تظل البلاد ذات أهمية استراتيجية بسبب ثرواتها النفطية وموقعها الجغرافي ودورها في احتواء إيران.
وتحتفظ الولايات المتحدة بنحو 2500 جندي في العراق ضمن مهمة مكافحة داعش، فيما تتعرض قواعدها في الأنبار وأربيل لهجمات متكررة من الميليشيات.
ومع ذلك، برز السوداني كشريك مفاجئ لواشنطن في دعم استقرار العراق. فقد نجح في إبقاء بلاده على الحياد خلال حرب غزة 2023، ثم خلال الحرب الإيرانية–الإسرائيلية في 2025، حيث منع الميليشيات من إطلاق الصواريخ على إسرائيل من الأراضي العراقية، وأعلن حظر استخدام المجال الجوي العراقي لأي هجمات ضد دول الجوار.
كما اتخذ السوداني خطوات لتقييد الأنشطة الاقتصادية للميليشيات، من بينها إحكام الرقابة على المنافذ الحدودية وتطبيق أنظمة جمركية إلكترونية جديدة بمساعدة أميركية، إضافة إلى إجراءات ضد تهريب الوقود.
ورغم محدودية هذه الإجراءات، إلا أنها تُظهر فهماً بأن استعادة السيادة تتطلب تفكيك الإمبراطورية المالية للميليشيات لا مواجهتها عسكرياً فقط. ويقف العراق اليوم أمام مفترق حاسم: فإما أن ينجح في ترسيخ مسار السيادة الوطنية والانفتاح الإقليمي المتوازن، أو يعيد إنتاج نموذج الدولة المخترقة بالميليشيات. ورغم أن نفوذ إيران لا يزال قوياً، إلا أنه لم يعد مطلقاً.
وتفتح الانتخابات المقبلة، والتحولات الإقليمية، والضغوط الداخلية على طهران، جميعها نافذة محتملة لإعادة بناء الدولة العراقية على أسس السيادة والتوازن.
وأما بالنسبة لواشنطن ودول الخليج، فإن استقرار العراق لا يعني فقط أمن المنطقة، بل أيضاً تحديد شكل النظام الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط. وستتردد أصداء النتيجة النهائية لصراع النفوذ في العراق في عموم المنطقة، لتحدد ما إذا كانت بغداد ستبقى ساحة تنافس أم دولة مستقلة القرار.
811 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع