بقلم: إبراهيم الناصري
العناق البارد... حين تنتهي الحرب وتبقى القلوب مشتعلة
في زمنٍ تتكرر فيه الحروب كأنها فصول العام، وتُعلن نهايتها كما تُعلن نشرات الطقس، يعود صوت محمود درويش من خلف الغياب ليذكّرنا بالحقيقة التي تتجاهلها البيانات الرسمية. فمقولته التي تفيض صدقًا ووجعًا – «ستنتهي الحرب ويتصافح القادة، وتبقى تلك العجوز تنتظر ولدها الشهيد، وتلك الفتاة تنتظر زوجها الحبيب، وأولئك الأطفال ينتظرون والدهم البطل، لا أعلم من باع الوطن، ولكنني رأيت من دفع الثمن» – ليست جملةً شعريةً فحسب، بل شهادةٌ أخلاقية على ما يُسمّى زورًا بـ«نهاية الحرب».
حين يُعلن الصلح في غزة، وتُرفع الرايات البيضاء فوق الأنقاض، ستتبادل الوفود الابتسامات وتتصافح الأيدي التي لم تعرف طين الخنادق. سيبدو المشهد كما لو أن الدم قد جفّ، وكأن المدن المهدّمة استيقظت على فجرٍ جديد. غير أنّ خلف هذا المشهد حياةً أخرى تئنّ بصمت: تلك العجوز التي لم تفهم بعد كيف يمرّ «السلام» من فوق قبر ابنها، وتلك الفتاة التي ما زالت تنظر إلى الطريق مترقبةً ظلّاً يعود، وأولئك الأطفال الذين حفظوا وجه أبيهم من صورةٍ مؤطّرة لم تعد تشبه سوى الغياب. هناك فقط يُدرك المرء أن الحرب لا تنتهي فعلًا، بل تغيّر شكلها فحسب، إذ تنتقل من ساحات القتال إلى صدور الناس.
تلك المفارقة الموجعة بين تصافح القادة وبقاء الوجع في القلوب تكشف انفصالًا عميقًا بين الضمير السياسي والضمير الإنساني. فالحرب تنتهي في مكاتب القرار، لكنها تبقى مشتعلة في البيوت التي لم تجد من يعيد بناءها، وفي النفوس التي لم تجد من يرممها. هكذا تتحوّل الأوطان إلى ساحات مساومة، وتتحول التضحيات إلى مشاهد رمزية تُستهلك في ضجيج الإعلام. إن قول درويش «لا أعلم من باع الوطن، ولكنني رأيت من دفع الثمن» ليس اتهامًا لشخصٍ بعينه، بل هو إدانة شاملة لنظامٍ سياسيٍ فقد ذاكرته الأخلاقية، ولوعيٍ جمعيٍ ينسى دماءه بمجرد سماع كلمة «سلام».
في هذه المقولة يقف درويش كضميرٍ أخلاقي لا يخضع للتوقيت السياسي. فبينما يسعى العالم إلى توثيق نهاية الحرب بالأحبار والاتفاقيات، يوثّق هو بدايتها في قلوب الناس التي لم تجد خاتمةً لوجعها. يذكّرنا بأن السلام لا يكون حقيقيًا ما لم يُعد الحق إلى من فقدوه، وما لم يُدفن السلاح في التربة نفسها التي احتضنت الشهداء. السلام، في رؤيته، ليس ورقة تُوقّع، بل وعي يُستعاد، وعدالة تُقام، وذاكرة تُنقذ من محوها المتعمّد.
وعندما تصافح الأيدي فوق الطاولات الباردة، سيبقى أولئك البسطاء وحدهم شهود الحقيقة، لأنهم يعرفون أكثر من غيرهم أن الوطن لا يُباع دفعةً واحدة، بل يُنزف بالتقسيط، كلما تنازلت الذاكرة عن وجعها، وكلما صمتت الأمهات عن صرخات الانتظار. هؤلاء هم الذين دفعوا الثمن، وهم وحدهم من يملكون الحق في تعريف معنى «الوطن».
إن محمود درويش لم يكن يكتب شعرًا حين قالها، بل كان يسجّل بيانًا للضمير الإنساني ضد النسيان. فالحرب – كما يراها – لا تنتهي حين تتوقف المدافع، بل حين يلتئم الوعي الجمعي على عدالةٍ تعيد للدم معناه، وللإنسان كرامته. وكل ما عدا ذلك ليس سوى «عناقٍ بارد» بين من باعوا الوطن ومن دفعوا الثمن.
895 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع