الثكنة المتربعة على ضفاف الشط لقوة العراق البحرية، تنهشها معاول التهديم، يتلقف النهابون موجوداتها العائدة الى وحدات غادرت مقراتها الى أخرى بديلة قبل أيام، تتجول الشياطين في شوارعها وأبنيتها الكئيبة بلباس الاتقياء لاغواء الواصلين تواً متأخرين بغية الامعان في التهديم. يتغاضى الداخلون عن حجم الخراب، لا يهمهم الخراب، بل لا يفهمون معنى الخراب، يندفعون بقوة هدم في داخلهم تغلفها مشاعر عدوان، كذلك تفعل الشياطين التي استمرت تُكبرُ في داخلهم مشاعر الانتقام.
يرجمون سوية بقايا سفن كانت مموهة في رسوها بعدما عجزوا عن فك بعض أجهزتها المثبتة باحكام.
تسقط الثكنة قبل بلوغ المنتفضين بناياتها المشيدة في الأصل رمزا للدفاع عن أرض العراق المحاذية للساحل والشط.
تختفي من وسطها كل الأشياء.
تصبح بعد الغزوة أرضا صالحة لرعي الأغنام، ينتهي عصر الابحار، تتحول السفن لعبا لأولاد الشيطان، يبكي عند ناصيتها البحارة القدماء وكذلك البصريون.
يدخل المنتفضون متأخرين كالمعتاد، لم يجدوا عسكرا ولا حراسا للمقرات ولا آثار سجون، ولا مقرات استخبارات. يسحبهم كريم الى خارج الثكنة المنكوبة موجها اللوم الى ذاته التي دب اليها اليأس من فعل التهديم، وتشظي الاتقياء وتكاثر أبناء الشيطان.
يعود من حيث أتى قاصدا ذلك الجامع الذي أصبح مهيئا لأن يكون قيادة ميدان متقدمة للمنتفضين في محلة الجمهورية، يتحرك وسطه الفسيح شدهان.... القادم من أهوار الناصرية خصيصا لدعم فعل الانتفاض، يحمل جهازاً لاسلكياً لم يسكت عن المناداة، يصدر أوامر قتال، يحرك جماعات، يرسل أخرى، يطالب ثالثة بالاقتحام، كأنه قائد ميدان يقف في الامام يرقب معركة يحترق وسطها الجنود المدافعون.
يعتلي المنبر الخشبي رجل يقترب طوله حدود المترين، بشرته البيضاء لم تمسها أشعة الشمس البنفسجية من قبل، تضفي عليه العمامة قدرا من المألوف، توحي النصائح والتوجيهات ولفت النظر والاصغاء أنه من يدير هذه المنطقة التي وصفها هو في لحظة نشوة انها محررة من رجس الشيطان.
صورة الثكنة وهول التهديم وتكاثر الشياطين والحقد والانتقام وايقاد الحرائق المقصود ينقلها كريم، يُسمع تفاصيلها كاملة بنبرة احتجاج الى السيد المتربع أعلى المنبر، يؤكد أهمية الهدف القادم مديرية أمن البصرة (اذا ما سقطت والمخابرات، فان السلطة في البصرة تكون بحكم المنتهية، وستكون المدينة العظيمة محررة بالكامل).
يتلقى وزميله اشادة من السيد ومن القائد الميداني شدهان معا، فيها مباركة لجهودهم وتنويه صريح بأنهم نعم المجاهدين، وأوامر موجهة الى شدهان تطالبه بارسال ثلاثة منتسبين يعاونون كريم وزميله في مهمتهم القتالية القادمة، مع قاذفة صواريخ (اربي جي 7) ستكون مفيدة في الهجوم على المباني الحصينة.
ينزل من على المنبر واثق من اصدار التوجيهات، لا أحد يناقشه، ولا آخر يسأله من أنت، ومن أين أتيت، هكذا هي أحوال القتال في مثل هكذا ظروف تُغلفُ عادة بقدر من المجهول يعطيها مسحة خوف روحانية تساعد على التنفيذ.
يتابع السيارات الثلاث المتجهة الى بناية الأمن العامة، ممتلئة بثلاثين شابا غالبيتهم لم يمسك بندقية من قبل... عدد لم يُشبعْ رغبة كريم في تحقيق الغاية ولم يفِ بالمطلوب كما هي قواعد الاشتباك القريب.
يشك هو وسالم معا بكفايتهم للتفوق على مدافعين عرفوا بصلابتهم في القتال.
يسأل سالم صديقه كريم الذي يعده خبيرا في القتال فيما اذا كان العدد مناسبا للاستمرار في المهمة؟.
تؤكد الاجابه شكه بالكفاية والكفاءة، يثق بأمكانية الاستفادة من الجمهور المنفعل مع أول خطوة نجاح يحققها الاقتحام، يتفقان على السير قدما لاكمال فعل الاقتحام.
السير قدما باتجاه الامن تبطؤه عوائق المارة المنتشرين بالشوارع والنهابة المحتشدين أفواجاً بانتظار خطوة اقتحام جديدة، يستثمرون فيها الفوز بغنائم أكثر.
دقائق لا تزيد عن العشرين تصل السيارات الثلاث بحمولتها من الشباب الحالم بالانتفاض الى بناية الامن.
يترجل الجميع قريبا من بوابتها الرئيسية.
يشرع كريم بتقسيم المتطوعين مجموعتين:
الاولى بإمرته مع رامي القاذفة القادم من الأهوار.
الثانية بإمرة سالم مع حامل الرشاشة الخفيفة الهارب من الجيش أخيرا.
يتفرق الأفراد من المجموعتين بعدة اتجاهات مع أول اطلاق نار يصوب باتجاههم من داخل البناية المستهدفة وان كان الرمي تخويفا فوق الرؤوس. القليل ممن خبر الخدمة العسكرية جنديا أو منتسبا للجيش الشعبي، يهرول صوب السياج في محاولة لاتخاذه ساترا يجنبه الاصابة المباشرة.
لا يأبه كريم لما حصل فقد خبر خلال خدمته الفعلية كثيرا من المواقف المشابهة وتعودت اذناه سماع الرمي القريب كما انه توقع مسبقا هكذا ردود فعل قبل تحقيق التماس مع المدافعين.
يبدأ بتوجيه الوصايا الخاصة بالقتال، يأمر بالتراجع الى الخلف وأخذ وضع الرمي ثم التصويب على الشبابيك العلوية. يطلب من سالم الالتفاف بمجموعته من خلف البناية، والرمي بالرشاشة على الأهداف الظاهرة، في الوقت الذي يتحرك سعيا لقيادة السيارة على الرغم من احتجاج السائق وتأكيده المسؤولية وأنه واحد من المنتفضين. يصر على القيادة بنفسه، وعلى ضرورة الالتزام وعدم النقاش، معطيا فسحة أمل لفهم الاسباب لاحقا.
يؤشر الى كاظم بقصد الصعود بقاذفته الى أعلى بدن السيارة وتوجيه صاروخ الى باب البناية الداخلية، حال النجاح باقتحام بابها الخارجية.
يصعد مسرعا خلف المقود، يتحرك باعلى تعجيل لمحركها المتهالك، يصدم الباب التي تنفتح صاغرة، يقترب أكثر، ينطلق اول صاروخ من القاذفة، يهدم الباب الداخلية، فاتحاً ثغرة في الجدار الكائن خلفها بقطر يزيد عن المترين.
يترجل من خلف المقود، ينادي الزملاء بأن يدخلوا وأن يستفيدوا سريعا من قوة الصدمة التي أحدثها الصاروخ.
يتقدم افراد مجموعته، يتكدسون قريبا، يلملمهم القلق جوقة عزف في أحتفالية عرس فقير. ينادي بأعلى صوته في أن يبتعدوا عن المكان الذي هو فيه، أن يتفرقوا فرادا خلف الجدار.
يعاود المدافعون رميهم المكشوف من برج الحراسة الجنوبي باصرار يؤشر عدم الرغبة بالتسليم، يشاغله بقوة النار التي ترافقه، ويعاود إصدار الاوامر الى كاظم لأن يضربه بسرعة لا تترك مجالا لفوات الاوان.
ينهدم البرج، يهوى الرامي من فوقه جثة مزقتها شظايا الانفجار، تصبح الساحة مفتوحة للتقدم الى مقر يتخدق خلف شبابيكه الحديدية وممراته الداخلية منتسبين مدربين جيدا عارفين بأمر الدفاع خيارهم الوحيد، وعارفين بأن الأمل في النجاة عند التسليم جد ضعيف. معرفة تزيد المعركة شراسة، تدفع الطرفين لمواصلة القتال باصرار الراغبين في الانتقام والساعين الى تفادي الحس بوجع الانتقام.
الصاروخ الثالث يحدث ارتباكا في صفوف المدافعين، يوقف الرمي لاكثر من دقيقة، يستثمرها كريم، يلقي رمانة يدوية هجومية قبل الدخول، يتبعه افراد المجموعة، يتلقى القريب منه رصاصة في رأسه من ضابطٍ كان متخفيا بشكل جيد في غرفة الاستعلامات، يرديه كريم قتيلا في الحال.
يجلب الرمي الشديد انتباه الجمهور الذي احتشد بالمئات خارج سياج البناية، غالبيتهم من ذوي المفقودين على أيدي رجال الأمن، وجدوا في الهجوم فرصة التفتيش عن الأحبة في سجن المديرية او في دفاترها السرية المبعثرة في كل مكان.
الأمل في داخلهم يرفع نسبة الادرينالين، يزيد من رغبتهم في اتمام المخاطرة والتفتيش عن ذويهم المفقودين. يتدافعون عند فتحة الدخول، لم يستطع كريم منعهم، فهم جميعا مصابون بهستيريا الاندفاع غير المحكوم بالضوابط والاصول.
تعم الفوضى المكان، يشتت الرمي الكثيف صفوف الداخلين، يضعهم خارج البناية مصابين بالهلع الشديد، يستمر كريم في تنقله تحت الرمي من غرفة الى أخرى، يحضر سالم للمعاونة بعد تثبيت خمسة زملاء لمراقبة الجانب الخلفي.
تشتد المقاومة قريبا من مكان السجن، تحشد كل البنادق باتجاهها، يخرج اثنان بملابسهم المدنية مضرجين بالدماء، يُقتلان في الحال، لا مجال للاسر، ولا تأجيل في عملية القتل فشهوته بلغت أعلى المستويات، يصاحبها اصرار من كلا الطرفين على حسم الموقف بقوة الرغبة في القتل لمجرد القتل أو للانتقام.
يدرك رجال الامن النتيجة مسبقا، يصرون على القتال أملا في تغيير الموقف حتى وصول النجدات من قوات عسكرية لا يمتلكون اي اتصال معها، ولا يعرفون شيئا عن ثكنات منتسبيها، وعن دخول الجمهور الغاضب بعضها انتقاماً من الخسارة التي سجلتها شنيعة في الحرب الخليجية الثانية، وطمعاً في اسلحتها ومعداتها التي استبيحت بكل أقتدار.
يعي رجال الانتفاضة تفاصيل الواقع، يصرون من جانبهم على الحسم ايضاً، فمديرية الامن في تصورهم قاعدة صلبة يستند اليها الحكم، وعمود قوي يتكأ عليه الحزب، ينتهي بانتهائها الأمل في الاستمرار بوضع الدفاع.
نصف ساعة من القتال الداخلي العنيف، ينهى عشرين رجلاً أمنياً كانوا متحصنين تسجل أنهم قاتلوا باقتدر، وخمسة من المهاجمين، وسبعة جرحى بينهم سالم أول المنتفضين.
يتوقف القتال بعد خسارةٍ عدت كبيرة بحساب التمرد والانتفاض.
يصعد كاظم مع قاذفته الى أعلى البناية، يكبر عاليا، معلنا سقوط المقر.
مئات المتجمهرين المتربصين، يقصدون البناية ركضا كأنهم في سباق مارثون يقام في بلاد غريبة، يدخلون الباب المفتوحة والشبابيك المهشمة ركضا.
أوراق المديرية واضابيرها، وحواسيبها واسلحتها، ومعدات التجسس فيها لم تصمد امامهم عشر دقائق، باتت من بعدها البناية هيكل تلتهمه النيران بذات الطريقة التي ألتهمت فيها مركز الشرطة في الصباح.
يشعر كريم بالامتعاض، وان أنهى المهمة التي فكر بها قبل ساعة من الان، لكنه لا يحب القتل لمجرد القتل ولا التهديم ولا يريد الانتقام.
أخبارٌ تناقلها الموجودون تؤكد انتهاء فاعلية المخابرات الجنوبية، وكذلك منظومة الاستخبارت.
يدخل الجمهور المنتفض بناياتها جميعا، يفعل بها مثلما فعل بالامن وباقي المقرات والثكنات المستباحة.
تنتهي المقرات الحزبية بالكامل.
يتنفس المنتفضون الصعداء.
تنفتح أسارير النهابون.
تخنق أنفاس الحكومة وما تبقى من عسكرها المتناثر بين المقرات.
يتعطل التفكير بالخطوات اللاحقة.
يتوقف كريم عند العتبة الخارجية لبيت الصديق الذي أثار في داخله الرغبة في التغيير، عاجزٌ عن القيام بخطوات لاحقة بعد أن حرفتها الخطوات السابقة عن الطريق الذي أراده صحيحا وأراده الغرباء الوافدون من خلف الحدود معمدا بالنار.
408 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع